الجيش ليس الحلّ


 هل “أقفر من أهله ملحوب”، كما قال عبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي في معلّقته؟ أإلى هذه الدرجة تعجز الطبقة السياسية في لبنان، كلّ ستّة أعوام، عن إنتاج رئيس مدني، رئيس حرفته السياسة والإدارة؟
إلى متى نزاول حياتنا المدنية وعيوننا على العسكر، على قائد الجيش، كائناً من كان هذا القائد؟ إلى متى يبقى العسكر أو العسكري هو المنقذ من كلّ ما نحن فيه، والحلّ لمشكلاتنا كلّها، أمنيّةً كانت أو سياسيةً أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً أو تربويةً؟
إلى متى يظلّ قائد الجيش المرشّح الأبرز والأقوى والأوفر حظّاً لرئاسة الجمهورية اللبنانية، الجمهورية البرلمانية والديمقراطية التي تشكّل الانتخابات فيها وسيلة العبور، وإن لفظياً ودستورياً، والوصول إلى أيّ مركز شاغر من مراكز الحكم؟

قائد الجيش رئيساً
بُعيد ثورة 1958 على الرئيس الأسبق الراحل كميل شمعون وسياساته وأحلافه واندياحاته، برز اسم قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب، مرشّحاً هو الأوفر حظّاً لتبوّؤ سدّة الرئاسة، ومرشحاً وحيداً لا ينافسه سياسي.
اتّفق عليه المختلفون داخلياً، كما المختلفون إقليمياً ودولياً. وصار رئيساً. في الشكل لا اعتراض على شخصه، ولا على ما بناه من مؤسّسات ودولة وهَيبة. ربّما هو النجمة الألمع في تاريخنا المعاصر. وهو الرئيس الأكفأ كما أثبتت العهود التي تلت عهده. الاعتراض الوحيد هو على عسكرة البلد والحكم والسياسة، على المكتب الثاني والممارسات الأمنيّة والمخابراتية.
دائماً أتساءل: أين كان قادة الموارنة والمنبَرون للشأن العامّ؟ كانوا أسماء كبيرةً في السياسة والوطن: بيار الجميّل، ريمون إدّه… إلخ. على الرغم من ذلك لم ينافسوا قائد الجيش ولم يزاحموه، مع أنّ الحلم الماروني الأوّل لم يفارق لياليهم ولا نهاراتهم، حتى الرمق الأخير.

شكّل الأمن المفقود أو اللاأمن أو الفلتان الأمنيّ شرعية اللجوء إلى عسكري. كان البلد محتلّاً والمتقاتلون منذ سنوات وأفكار وعقائد، ما يزالون خلف المتاريس. المتاريس لا تقدّم إلا العسكر، حمَلة السلاح، شرعيين كانوا أم غير شرعيين، بل ضدّ الشرعية

الالتباس الذي ينبغي توضيحه
مطلع الثمانينيات، برز اسم بشير الجميّل. أيضاً لم ينافسه منافس. كان بشير الجميّل أوّلاً وأخيراً رجل حرب. كان عسكرياً وإن في ميليشيا أو حزب. انبرى وانتصر. صار رئيساً، ثمّ طار، اغتيل. كان الراحل عسكرياً ملتبساً في مدنيّته، ولولا ثلّة من المفكّرين المحيطين الذين ضبطوا حركته، لأخذته العسكرية في كلّ شيء.
اشتعلت الحرب مجدّداً بما يوحي أنّه لو ظلّ رئيساً ولم يُغتَل لما استمرّت الحرب. طُرح على أنّه الوحيد الذي في يده قرار السلم، وإنهاء شلّال الدم الأهلي. من بين الأصوات العاقلة كلّها التي كانت تشكّل نقطة التقاء وقتها بين المتنازعين، لم ينافس الجميّل منافس، بل لم يترشّح ضدّه ولو مدنيّاً واحداً، وكانوا كثراً.
شكّل الأمن المفقود أو اللاأمن أو الفلتان الأمنيّ شرعية اللجوء إلى عسكري. كان البلد محتلّاً والمتقاتلون منذ سنوات وأفكار وعقائد، ما يزالون خلف المتاريس. المتاريس لا تقدّم إلا العسكر، حمَلة السلاح، شرعيين كانوا أم غير شرعيين، بل ضدّ الشرعية.
قبل ذلك كان السلاح وحمَلته حكّاماً فعليّين للبلد، وإن في ظلّ رئيس شرعي منتخَب يسكن في بعبدا.

العسكر في رحاب الطائف
في رحاب الجمهورية الثانية: جمهورية الطائف، وبعد انتهاء ولاية الياس الهراوي الممدَّدة، جاء قائد الجيش العماد إميل لحّود رئيساً. لم يكن الأمن فالتاً. كان البلد ممسوكاً وإن غير متماسك، كما اتّضح لاحقاً وحتى اللحظة.
جيء به لئلّا يفلت الأمن من عقاله السوري. جيء به تحسّباً لانفلات أمني استشعره أمنيّون يمسكون زمام السياسة والأمن والبلد، أو هكذا روّج المروّجون. ثمّ بالحجّة نفسها مدّدوا له، وكسروا الجرّة. عملياً، كسروا البلد.
بين بشير الجميّل وإميل لحّود، برز على الدوام اسم قائد الجيش حينها، ميشال عون، وأنّه رئيس حكومة عسكرية، لا يكون حلّ على غير يده. وطرح نفسه حلّاً، فكان ما كان وما هو اليوم.

بين بشير الجميّل وإميل لحّود، برز على الدوام اسم قائد الجيش حينها، ميشال عون، وأنّه رئيس حكومة عسكرية، لا يكون حلّ على غير يده. وطرح نفسه حلّاً، فكان ما كان وما هو اليوم

لم يُطرح وقتها رئيساً للجمهورية وإن لم يفارقه الحلم، لكن كان بوّابة الرئيس إلى بعبدا، أو هكذا خُيّل إليه. كان مفتاح الحلّ، أو هكذا قُدّم. لاحقاً أبرز حلّه للمشكلات المستعصية وغير المستعصية كلّها: الحرق، النيران، وجهنّم كما قال بالفم الملآن.
بعد لحّود، وطول فراغ (الطول أو القِصر نسبةً إلى ما مررنا به بعدئذٍ وما نحن فيه اليوم؟)، اشتعلت في مخيّم نهر البارد. حضر الأمن في رحاب الفراغ خضّةً أمنيّةً أو هزّةً كانت كفيلةً برفع حظوظ قائد الجيش وقتئذٍ العماد ميشال سليمان.
سليمان قائد فعليّ للجيش في مواجهة قائد سابق للجيش هو ميشال عون. واجتمع النواب المنتخبون ديمقراطياً، وانتخبوه رئيساً. انتخبوه حلّاً سياسياً، لكن متى يحلّ عسكري مشكلةً بغير أمن وبغير سلاح؟ ثمّ سلّم البلد للدوّامة نفسها: فراغٌ فعسكريٌّ ففراغ.

فيلم لبنانيّ قديم
والآن؟ الآن عود على بدء. فيلم قديم عمره من عمر الجمهورية، سنشاهده ربّما للمرّة الألف. خضّة أمنيّة أو هزّة واشتباكات مسلّحة عنيفة في مخيّم آخر (عين الحلوة هذه المرّة؟)، وفي بقعة جديدة من بقاع الوطن، فينبري لضبط السلاح غير الشرعي حامل السلاح الشرعي، أي الجيش، وترتفع حظوظ قائده، ثمّ يُقدَّم على أنّه حامي الحمى وينتقل إلى بعبدا، إلى الساحة السياسية والاقتصادية والقانونية والإدارية.
يأتي بعقليّة عسكري ورجل أمن، فتُعيد المشكلة إنتاج نفسها ولا تفارقنا الدوّامة القديمة الجديدة، أو لا نفارقها.
أقفر من أهله لبنان؟ بل تصحّر. “أقفر” تلك كانت سابقاً، يوم علا صوت الرصاص فوق أصوات السياسيين حتى بُحّت وانقطعت ولم يعد لها أثر يُذكر بعيداً عن الأمن والعسكر والسلاح.
مطلوب رئيس؟ لا. المطلوب طبقة سياسية تنتج حياةً سياسيةً واقتصاديةً واجتماعيةً وتربويةً عمادها الحوار والتفاهم والرأي ونقيضه، وعمادها الانتخاب والدستور والقوانين.

إقرأ أيضاً: مصر في “بريكس”… وزن الحقّ

مطلوب ألّا يكون عسكري في بلد الفكر والإشعاع والأفكار والأحزاب، هو المرشّح الوحيد الأوحد، أو الأكثر حظّاً. المطلوب مضادّات حيوية سياسية لعدوى عربية وإقليمية أصابت لبنان، اسمها الانقلابات العسكرية، أو حكم العسكر.
لولا التعدّدية في لبنان لكان العسكر انقضّ على الحكم السياسي، ولا سيّما في ظلّ طبقة سياسية من طراز تلك القائمة، ولكنّا لحقنا بكلّ هذا الشرق الكئيب. في السياسة على السياسيين أن يتنازلوا ويبرعوا في حياكة التسويات، لكن لا أن يتنازلوا عن الدستور والقوانين والديمقراطية والبرلمانية. إذا فعلوا هذا فقد تنازلوا عن عقولهم.
“الإخوان المسلمون” ومعهم الخمينيّة قالوا مرّةً إنّ “الإسلام هو الحلّ”، لكنّهم فعلوا وقالوا علانية. العسكر عندنا يستتر، لكنّ الجيش ليس الحلّ.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…