أطل أدونيس بعد ما يزيد عن الشهر على إنطلاقة معركة “طوفان الأقصى”. إطلالة حملت الكثير في مقالة له بصحيفة “الأخبار”. تحدّث عن حركة حماس وعن 7 أكتوبر وكأنّه أحد المأزومين بما حصل، من جهة لا يمكنه إلا مساندة الشعب الفلسطيني وحقه بالمقاومة، ومن جهة أخرى لا يمكنه التنكّر لتاريخه ومواقفه من الإسلام السياسيّ. إطلالة لا بدّ من التوقف عندها في 3 حلقات. الأولى، تتناول مساره في الدنيا والأدب والشعر والتراث، والثانية تتحدّث عن دوره في أيامنا وشبهه بـ”طه حسين” ما بين الثابت والمتحوّل. أما الثالثة يُختم الحديث بها عن إطلالته الأخيره وموقفه من حماس.
************
مروره في الدنيا ليس عابراً. قبله، لم يكن الأدب العربي والشعر العربي والتراث على ما هي عليه اليوم. لم يُثر رجل قبله في زمننا هذا ما أثاره هو من إشكاليات وجدل ونقاشات. وها هو، بخطى واثقة، وعقل نيّر، وثقافة واسعة لا يحدّها حدّ، يتقدّم نحو المئة من عمره. مئة إلا نيّفاً هي عمر أدونيس اليوم، الشاعر والمفكّر السوري، ملأ خلالها علي أحمد سعيد إسبر المعروف بـ”أدونيس” الدنيا وشغل الناس… ولا يزال.
هو إلى اليوم، كلّما تفوّه بكلمة، انبرى له كثر: بين مؤيّد متحمّس، وبين ومعادٍ مكفّر، خصوصاً أنّ أدونيس لا يتكلّم على الهامش أبداً، ولا يكتب من دون التعرّض للمؤسّسة الدينية القائمة منذ دهر. ولا يعبر في الحياة الفكرية والثقافية من دون أن ينقد نصوصاً شبه مقدّسة في التراث. في الحلقة الأولى عرض لأبرز مراحل حياته ومحطّاته. وأنت ترى إلى أدونيس، تبدو كمن يقرأ في التراث العربي القديم، وفي الوقت عينه كمن يشاهد المستقبل.
الماضي كلّه والحاضر بإشكاليّاته
الكتابة عن أدونيس، الشاعر السوري العالمي والمفكّر العربي الكبير، مهمّة شاقّة. مهمّة لا تحتاج إلى مناسبة. الرجل مناسبة قائمة بذاتها. وحده، قرأ أدونيس التراث العربي كلّه، والشعر العربي من أوّل شطر فيه حتى آخر عجز. تحسب وأنت تقرأه أو تستمع إليه، وكأنّ التاريخ والتراث والشعر والفلسفة والدين قد تجسّدت في هيئة رجل واحد يجلس أمامك بكلّ تواضع ليحكي، وكأنّ شعراء العرب والعربيّة ينشدونك قصائدهم وأنت تستمع إليه أو تقرأ ما كتب.
في حضرة أدونيس، مستمعاً أو مشاهداً أو قارئاً، ترتسم في ذهنك علامات استفهام لا حصر لها ولا عدد. في حضرته أنت أمام الماضي كلّه، والحاضر بإشكاليّاته كلّها، والمستقبل بهواجس ما كانه الماضي والحاضر في آنٍ.
الكتابة عن أدونيس، الشاعر السوري العالمي والمفكّر العربي الكبير، مهمّة شاقّة. مهمّة لا تحتاج إلى مناسبة. الرجل مناسبة قائمة بذاتها
محطّات غير عابرة
في قرية قصابين في غرب اللاذقية في سوريا، وُلد علي أحمد سعيد إسبر. تناسل من عائلة تعمل في الفلاحة، في شهر كانون الثاني من عام 1930. لم يلتحق بالمدرسة إلى أن أتمّ الثالثة عشرة من عمره. حصل ذلك بحادثة قلّما تحدث. ففي أثناء قيام الرئيس شكري القوّتلي بجولة في قرى سوريا وبلداتها ومحافظاتها، بعيد استقلالها عن فرنسا، انبرى الفلاح الصغير ليلقي قصيدة أمام الرئيس الذي شكره وسأله أن يطلب شيئاً لنفسه: “أريد أن أذهب إلى المدرسة”، أجاب الفتى الصغير. وكان له ما أراد.
التحق أدونيس بالمدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس، وحين أُغلقت عام 1945، انتقل إلى مدرسة وطنية أخرى، قبل تخرّجه في عام 1949. نال منحةً تعليميةً حكوميةً بسبب تفوّقه، والتحق بالجامعة السورية وتخرّج منها عام 1954، مجازاً في الفلسفة.
في المدرسة، التحق بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وسُجن في أعقاب اغتيال عدنان المالكي في خمسينيات القرن الماضي، لاتّهام السلطات الحزب الذي ينتمي إليه بالقيام بالاغتيال. وفي تلك المرحلة، تعرّف إلى الناقدة الباحثة خالدة سعيد، وتزوّجا وأسّسا أسرةً مكوّنةً من ابنتين هما أرواد ونينار.
بعد السجن، توجّه مباشرة إلى بيروت، رائدة الانفتاح يومذاك وعاصمة الحرّية.
أدونيس
عن سبب اختياره اسم “أدونيس” اسماً أدبيّاً أو اسماً أوّل له لا يُعرف إلا به حتى الآن لغير الباحثين والمتخصّصين، يقول علي أحمد سعيد إنّه راسل عدداً من المجلات والصحف باسمه الحقيقي، فلم تنشر له أيّ منها قصائده وما يكتب. ثمّ حين راسلهم باسم أدونيس، نشروا له مقاله، وذيّلوا المقال بعبارة تفيد بأنّهم يطلبونه للحضور إلى الجريدة.
أدونيس، كما تقول الأسطورة، إله فينيقي، وُلد نتيجة قصّة حبّ بين ملك فينيقي وابنته، ووقع على خنزير برّي أثناء الصيد وأصابه من دون أن يقضي عليه، فهجم الخنزير على أدونيس وجرحه في قدمه فسالت دماؤه على الأرض واندمجت مع دموع الإلهة فانبثقت زهرة حمراء من التراب (شقائق النعمان)، وظلّت متدفّقةً حتى امتزجت بمياه نهر قريب، وصبغتها بلونها. النهر هو نهر أدونيس في لبنان.
ألق بيروت وحيويّتها
في بيروت، أصدر أدونيس ديوانه “أغاني مهيار الدمشقيّ”، الذي كرّسه شاعراً من الطراز الرفيع عام 1957.
في بيروت، شارك أدونيس مع مجموعة من الشعراء في مجلة “شعر”، وهي مجلّة تُعنى بالشعر العربي الحديث أسّسها الشاعر اللبناني يوسف الخال، وصارت تصدر منذ عام 1962 مذيّلةً باسمَي يوسف الخال وأدونيس كمالكين لها ورئيسَي تحريرها.
في بيروت، أصدر أدونيس ديوانه “أغاني مهيار الدمشقيّ”، الذي كرّسه شاعراً من الطراز الرفيع عام 1957
لم يتوقّف تحصيل أدونيس العلمي عند نيله إجازةً في الفلسفة من الجامعة السورية، بل استأنف دراسته أو مشروعه لاحقاً في بيروت، واضعاً التراث الشعري والأدبي العربي هدفاً نصب عينيه. أصدر أوّلاً مقدّمة للشعر العربي، على طريقة الأدباء والكتّاب العرب القدماء، مثل المفضّل الضبّي في “المفضليّات”، وأبي تمّام في ديوان الحماسة.
ثمّ انتقل إلى دراسة الأدب والتراث العربيَّين، وأصدر أطروحته التي لا تزال “إشعاعاً” ثقافياً، ومرجعاً للباحثين والنقّاد والأدباء حتى أيامنا هذه. الأطروحة حملت اسماً إشكالياً بحدّ ذاته. جاءت بعنوان “الثابت والمتحوّل”، ونال عليها درجة الدكتوراه بدرجة ممتاز عام 1973 من جامعة القديس يوسف. والقيمة المُضافة كانت إشراف بولس نويا اليسوعي على الأطروحة، وهو الذي عُرف بسعة ثقافته وساهم في ألق بيروت وحيويّتها الثقافية.
في “الثابت والمتحوّل: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب”، يتناول أدونيس التراث العربي عموماً بالنقد والدراسة والتمحيص، في أربعة أجزاء قضى أكثر من عقد من الزمن وهو يعمل عليها. يقول في حوار معه: “العرب توقّفوا عن إنتاج المعرفة منذ سقوط بغداد عام 1258. وقلت لا بدّ من إعادة قراءة موروثنا القديم بعين نقديّة، لأنّه من دون ذلك لا يمكن إنتاج معرفة جديدة”.
حركة الحداثة الشعريّة
كُتب الكثير عن مجلة “شعر”. بل لم تلقَ مجلة عربية أدبية ما لاقته هذه المجلة من اهتمام ونقد وحتى عداء وهجوم. كانت الأكثر تأثيراً حينها في الحركة الشعرية والأدبية والفكرية عموماً، وكانت المحرّك الرئيسي والحاضن الأساسي لحركة الحداثة في الأدب العربي.
لم تكن مجلة “شعر” مجرد مجلّة بل كانت حركةً أدبيةً ثوريةً وضعت نصب عينيها التراث هادفةً إلى إعادة قراءته وتحديثه. وهي منذ صدور العدد الأول منها، لا تزال تثير الجدل. وقد سال حبر كثيف وكثير إلى يومنا هذا حول القضايا التي طرحتها. السجال طال أعلاماً وكباراً في الأدب والثقافة من روّادها. انخرط هؤلاء جميعهم في النقاش من يوسف الخال وأدونيس، مروراً بجبرا إبراهيم جبرا وبدر شاكر السيّاب وصولاً إلى أنسي الحاج، وليس انتهاءً به.
هذه النخبة من الروّاد تركت بصمةً واضحةً وأثراً شديداً في الشعر العربي المعاصر، فغالبية ما يُنشر اليوم من شعر ودراسات يحاول أصحابها السير على خطى “جماعة شعر” كما كان يُطلق عليهم. رفض روّاد مجلة “شعر” الالتزام بالطرق التقليدية لكتابة الشعر والنثر، لأنّها تعيق تطوّر الأدب، وجعلت الشعر قضيةً ورؤيا في الإنسان والوجود، لا مجرّد تعبير عن انفعال أو وصف لشخص أو لشيء، أو حكمة تتداولها الأجيال، كما حاولت ربطه بآداب الأمم والشعوب والحضارات الأخرى لإثرائه وفتح آفاق جديدة أمامه، وقد نجحت في ذلك إلى حدّ كبير.
بعد مجلة “شعر”، أصدر أدونيس مجلة “مواقف” في عام 1968، وهي فصليّة أدبية وثقافية انبرت بالإضافة إلى تناول هموم الشعر والأدب، لنقد سياسات الدول العربية وأوهامها بعد هزيمتها في حرب 1967. كان ذلك خياراً شجاعاً لأنّ الأدب جزء من حركة أوسع وأشمل تهدف إلى التجديد والتطوير على المستويات كافّة. وقد ساهم في “مواقف”، كتّاب وشعراء ومفكّرون كثر، من بينهم إلياس خوري وهشام شرابي والشاعر الفلسطيني محمود درويش. واستمرّت “مواقف” في الصدور حتى عام 1994.
لاحقاً، بين عامَي 2011 و2013، أصدر أدونيس مجلة “الآخر”، التي عُنيت بنشر المحتوى الأصلي، بالإضافة إلى العديد من الترجمات الأدبية للمقالات الفلسفية المعاصرة حول الفلسفة والعروبة والفكر العربي المعاصر، وتناولت قضايا إشكالية في الفكرين السياسي والديني
*في الحلقة الثانية: أدونيس… طه حسين أيّامنا
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@