ماذا بعد زيارة لودريان الأولى؟

2023-06-26

ماذا بعد زيارة لودريان الأولى؟

انتهت زيارة وزير الخارجية الأسبق والمبعوث الرئاسي الفرنسي الخاصّ جان إيف لودريان لبيروت. وهذه هي الجولة الأولى من مهمّته المكلّف بها، وستحتاج إلى سلسلة إضافية من الجولات في لبنان وخارجه.
قبل قدومه إلى بيروت، ناقش لودريان الملفّ اللبناني مع المجموعات الاستشارية والدبلوماسية والخارجية وخلايا مراكز القرار التالية:
1- الرئاسية التي تتبع للإليزيه مباشرة، وهي تحت إمرة ماكرون.
2- الخارجية والدبلوماسية في “الكي دورسيه” التي تخضع لوزيرة الخارجية كاترين كولونا.
3- خليّة الأزمة الخاصّة المولجة الإشراف والمساعدة في حلّ الأزمة اللبنانية، والمؤلّفة من الثلاثي دوريل، بون وإيمييه.
4- الفريق السعوديّ الخاصّ، الذي يتألّف من المستشار الممتاز في الأمانة العامّة لمجلس الوزراء في السعودية نزار العلولا، والسفير السعودي في لبنان وليد بخاري.
حمل لودريان ملفّ تكليفه السريع تحت إبطه. لم يحتَج كثيراً من الوقت للتحضير، فهو خبير بزوايا وخفايا لبنان وحكّامه. قام برحلته التراكمية باحثاً عن التفاصيل الفعّالة. يوازن لودريان بين دبلوماسية الفراغ اللبناني القاتل، وكيفية تمرير المرحلة الراهنة، من خلال مبادرات الوقت المستقطَع، في محاولة منه لإشغال الساحة المحلّية وضبطها شكليّاً، في انتظار حلول الوقت المناسب ونضوج التسوية.

تحاول فرنسا استعادة دورها الفعّال والوسطي المفيد. لا تريد التفريط بخصوصيّتها في لبنان، فهو بوّابتها الفرنكوفونية في هذا الشرق. تعمل على استرجاع لقبها “الوسيط النزيه”

ماذا كشفت زيارة لودريان؟
كشفت زيارة الوزير لودريان لبيروت وانعقاد القمّة الفرنسية السعودية في باريس عن الخفّة السياسية اللبنانية وانخفاض حسّ المسؤولية الذي ظهر في تحريف كيفية التعاطي مع الأحداث الواقعية والتفاعل معها بمنطق السخرية والتهكّمات اللاذعة من خلال أمرين:
-الأوّل: إشكالية طرح الملفّ اللبناني في القمّة التي جمعت الرئيس الفرنسي ماكرون مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، هل هو أولوية؟ هل سيساعدون لبنان؟
-الثاني: انشغال الساحة اللبنانية بلباس وحذاء المبعوث الرئاسي الفرنسي، عوضاً من التركيز على الأزمة اللبنانية وسبل حلّها.
تحاول فرنسا استعادة دورها الفعّال والوسطي المفيد. لا تريد التفريط بخصوصيّتها في لبنان، فهو بوّابتها الفرنكوفونية في هذا الشرق. تعمل على استرجاع لقبها “الوسيط النزيه”. لذلك اتّصف حضور لودريان بالزخم الشكليّ والإعلامي، على الرغم من كلّ البطء العملاني والثقل الحركي في المضمون الواقعي لدورها.
استقبل الوفود والشخصيّات اللبنانية في زيارة استطلاعية واستماعية صوتيّة. جال لتجميع الأفكار وتركيزها، وأهمّ ما فيها التناغم والتنسيق السعوديّان والدعم الأميركي ضمن شروط البيان الثلاثي والقرارات الدولية. كان لودريان مستمعاً أكثر منه محاوراً. يخاطب مجالسيه بأسلوب مرن ومتفهّم. يحدّق بهم بالطريقة التي تناسبهم لإنجاح الجلسات والوصول إلى محصّلة نافعة.
لن تقدّم هذه الزيارة لوحدها أيَّ شيء، ومن دونها لن يكون أيّ جديد. ستظهر بداية نسق مختلف في طريقة التعامل مع الملفّ اللبناني، بعد تقديم لودريان تقريره إلى الرئيس ماكرون. يعلم المبعوث الرئاسي أنّ مقاليد الحلّ ليست محلّية بشكل صرف، لكنّها يجب أن تنطلق من الداخل عبر النفَس التوافقي والإجماعي المنسجم مع الدستور والقوانين اللبنانية، والاستفادة من المناخات التقاربية الإقليمية. فقد زار لودريان لبنان جسداً، لكنّه كان في العمق والجوهر والفكر العملاني في أكثر من مكان، وكأنّه في جولة تشمل المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ومصر وأميركا وإيران.
فهِم كلّ فريق نتيجة وفحوى لقائه مع لودريان على طريقته. فمنهم من اعتبر أنّ فرنسا متمسّكة بمعادلة فرنجية، ومنهم من فسّر حركتها بخروج ليّن منها، فيما اقتنعت البقية بمبادرة فرنسية جديدة. فبدا لودريان وكأنه “أبو ملحم” فرنسا. لم يهاجم فريقاً، ولن يؤيّد آخر، وضيّع الكلّ. خرجت كلّ الكتل والشخصيّات راضية ومتأمّلة ومتفائلة بالتوافق، إذ شدّد على التوافق الذي يُعتبر هدفه الحقيقي والمدخل الأساسي لأيّ حلّ.

كشفت زيارة الوزير لودريان لبيروت وانعقاد القمّة الفرنسية السعودية في باريس عن الخفّة السياسية اللبنانية وانخفاض حسّ المسؤولية الذي ظهر في تحريف كيفية التعاطي مع الأحداث الواقعية والتفاعل معها

يشكّل الاستحقاق الرئاسي المعبر الوحيد لطريق الخلاص، لكنّه ليس الهدف. يُعتبر وسيلة وبداية طريق الشروع في مسيرة الإصلاح والتطوير والترشيق والتعديل في المؤسّسات. إنّه الحلّ الوحيد لتمكين الاستقرار، وانتشال لبنان من أزمته. وهذا لن يتمّ من دون التوافق التامّ والتطبيق الحرفيّ للدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني. وهو الذي يقطع الطريق على كلّ المعادلات المناقضة للطائف، والمطروحة في السرّ والعلن. إنّه يمهّد الانتقال في لبنان إلى مصافّ الدول العصرية المؤسّساتية.

أسئلة لودريان
انطلق لودريان في لقاءاته من ضرورة التوافق، ومن كيفية الوصول إليه، طارحاً مجموعة أسئلة:
كيف يمكن الخروج من هذا الانسداد السياسي والرئاسي؟
هل يمكن الخروج من التصلّب الرئاسي عن طريق مرشّح توافقي؟
ما هويّة المرشّح التوافقي الذي يمكن أن توافق عليه القوى السياسية؟
لقد ثبّت لودريان من خلال السؤال الثالث التراجع الفرنسي نوعاً ما عن صيغة السلّة المتكاملة والأسماء المسمّاة. وهي عودة فرنسية محمودة إلى سياستها الخارجية الكلاسيكية غير المبنيّة على الشخصانية، والنابعة من حماية ودعم الدستور والمؤسّسات. لا يمكن لفرنسا أن تتراجع صراحة، كي لا تدين نفسها. لكنّها تحاول التعامل مع الأمور على نحو براغماتي، مستفيدة من الظروف الواقعية والقبول الأميركي بالحلّ والرؤية السعودية والتنسيق التامّ معها.
يرتكز لودريان على حلّ شعارُه “لا غالب ولا مغلوب”، ويحاول ترجمته في انتخاب رئيس جمهورية توافقي مسبقاً، ثمّ الشروع في كلّ الخطوات اللازمة والضرورية، بدءاً من الحوار إلى الإصلاحات. فالتوجّه الأفضل هو الإسراع في ملء الشغور الرئاسي في بعبدا، ورئاسة الرئيس الجديد هذا الحوار، فهو ثمرة هذا التوافق والتلاقي، وحريّ به أن يلعب دور الوسيط والحكَم بين جميع الأفرقاء، وهو ما ينصّ عليه الدستور.
كشفت الجلسات للمبعوث الرئاسي جان إيف لودريان الرؤى والأفكار المختلفة للأفرقاء في لبنان، فكان يرى ويتنبّه إلى قناعاتهم بحسب طبيعة وفحوى اللقاءات، فتبيّن له أنّ فريقاً مع المثالثة، وآخر مع الفدرالية، وأناساً مع “الطائف” بشكله الحالي، أي منقوص التطبيق، ومجموعة مع تطبيق “الطائف” بكلّ خطواته ومندرجاته، بدءاً من اللامركزية الإدارية.

إقرأ أيضاً: مهمّة لودريان مع “الدول الشريكة”: ترقّب تفاوض إيران وأميركا

الحفاظ على الدولة
يعمل لودريان على مشروع أبعد من الاستحقاق الرئاسي بتوافق فرنسي – دولي وسعودي – عربي. يتمحور الهدف حول كيفية المحافظة على الدولة اللبنانية بصيغتها الحالية، فلا مجال للعودة إلى لبنان ما قبل صيغة 1920، أي صيغة المتصرّفية وبروتوكولاتها، وليس من المسموح حالياً الإتيان بنموذج نظام آخر بديل عن الطائف. إنّ أقصى ما يمكن الاتفاق عليه حاليّاً وتثبيته هو التطبيق الحرفيّ لوثيقة الوفاق الوطني وتفعيل اللامركزية الإدارية، تلبية لحاجات المجتمع والمواطنين.
تخبرنا حركة المبعوث الرئاسي الفرنسي، والخطوات الدولية والإقليمية بخصوص لبنان، بأنّه ما من حلّ في القريب، ولو أنّ موعد عودته قريب. من غير المعروف هل تكون نتيجة هذه النشاطات نجاحاً أم فشلاً؟ لكنّ الأمر الوحيد الجامع لكلّ الأطراف هو ضرورة التوافق المحلّي أوّلاً، والاستفادة من المناخات الرطبة ثانياً، وهو ما تدلي به فرنسا وكلّ دول خليّة الأزمة.

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…