دخلت المنطقة عصر “الاتّفاق الإيراني – السعودي” من دون مقدّمات. كان إعلان البيان الثلاثي المقتضب من الصين كافياً لطيّ مرحلة اتّسمت بالتوتّر والتهديد الدائمين ولإبعاد شبح المواجهة العسكرية الحتميّة. التزم الكبار فامتثل حمَلة الرايات من الخليج العربي حتى شواطىء المتوسط وتبدّلت لغة الإثارة التي اجتاحت المنابر ونهلت لسنوات من أساطير الشقاق والفتنة الطائفية.
وقْعُ الاتّفاق، الذي جمع قطبَي التناقض الإقليمي إلى الراعي الصيني، من خارج المألوف الشرق أوسطي، لذا لم يترك للمتضرّرين سوى خيار التأييد، وإن بتحفّظ.
وفيما يهيْمن الترقّب على مواقف العديد من المراهنين على عدم التزام طهران بمندرجات الاتّفاق، تتدافع المواقف التي تؤسّس عليه للاستثمار في الكوّة التي فُتحت في جدار التمرّد الإيراني المزمن، بما يتجاوز “انقضاض الصين” على المحادثات الإيرانية – السعودية.
دخلت المنطقة عصر “الاتّفاق الإيراني – السعودي” من دون مقدّمات. كان إعلان البيان الثلاثي المقتضب من الصين كافياً لطيّ مرحلة اتّسمت بالتوتّر والتهديد الدائمين ولإبعاد شبح المواجهة العسكرية الحتميّة
فقد نقلت وكالة “أسوشيتد برس” عن الخارجية الأميركية أنّ المبعوث الخاص إلى اليمن تيموثي ليندركينغ سيزور السعودية وسلطنة عمان هذا الأسبوع، في محاولة للبناء على الهدنة التي توسّطت فيها الأمم المتّحدة، وأنّ الإدارة الأميركية تعتبر ما جرى أمراً جيّداً إذا كان بإمكان الصين أن تلعب دوراً معزّزاً في إنهاء الأعمال “العدائية” في اليمن. بدورها، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أميركيين وسعوديين قولهم إنّ إيران وافقت على وقف شحنات الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن، تنفيذاً للاتّفاق الذي توصّلت إليه مع الرياض، وتساءلت عن جدّيّة إيران في التمسّك بالاتّفاق حتى النهاية.
تواصل المملكة العربية السعودية بتفاؤلها الرصين التأكيد على جدّيّة الاتّفاق. هذا ما عبّر عنه وزير خارجيّتها الأمير فيصل بن فرحان خلال الجلسة الافتتاحية لمنظمة التعاون الإسلامي التي عُقدت في العاصمة الموريتانية نواكشوط أول من أمس (الخميس)، تحت شعار “الوسطيّة والاعتدال صماما الأمن والاستقرار”. ففي معرض التعريف بدور الاتّفاق السعودي – الإيراني في تعزيز أمن واستقرار منطقة الخليج العربي، ودعم مسيرة العمل الإسلامي المشترك، أكّد بن فرحان على الثوابت التي استند إليها اتّفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وفي طليعتها احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية وحسن الجوار وحلّ الخلافات بالحوار.
إيران تؤكّد جديّتها
بدورها تبادر إيران إلى التعبير عن مرحلة ما بعد البيان الثلاثي عبر التعامل بندّيّة مع دول الجوار والتأكيد على مقاصدها من الاتّفاق بعيداً عن الالتباس والغموض اللذين شابا سياستها الخارجية.
أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني يوصّف زيارته لدولة الإمارات العربية المتّحدة بأنّها “محطة لدخول البلدين مرحلة جديدة من تعزيز العلاقات في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية”. كذلك أكّد خلال لقائه مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد آل نهيان على أنّ “تجاوز التّحدّيات التي تمرّ بها المنطقة يقتضي تعزيز التعاون بين دولها”، وأنّ “هذه التّحدّيات ليست لصالح أيّ منها”.
أما بهادري جهرمي، المتحدّث باسم حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، فأعلن أنّ الاتّفاق الدبلوماسي بين إيران والسعودية يصحّح “خطأً استراتيجياً” في سياسة طهران الخارجية، وأنّ “إعادة العلاقات مع السعودية أظهرت أنّ حلّ القضايا الإقليمية والعالمية لا يمرّ من خلال الغرب فقط، وأنّ هناك خطأً استراتيجياً في مجال السياسة الخارجية بهذا الشأن”. وهذا يؤكّد أنّ المنطقة مقبلة على انعطافة حادّة، وربّما على انقلاب حقيقي في مفاهيم الأمن القومي في الشرق الأوسط بأبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية، وربّما في علاقة المنطقة بالقوى الدولية.
الاتّفاق كان اتّفاق الضرورة بعيداً عن لغة التجييش التي استُخدمت لسنوات والتي كان لها الدور الأساس في تعميق الخلافات وإثارة النعرات المذهبية وأخذ المنطقة إلى مواجهة عسكرية محتومة
نسخة إيرانية معدّلة: التكنوقراط
تقدّم إيران نفسها لدول الجوار وعبرها للعالم أجمع بنسخة جديدة، محاولة التأكيد أنّ قراراً صارماً قد اتّخذته الدولة العميقة بإحداث قطع حقيقي مع الماضي. وربّما تحديداً مع مرحلة انطلقت منذ عام 2003 وأسّست لتدخّل سافر في شؤون الدول العربية وتجاوز لسيادتها في ضوء الدخول الأميركي الى العراق.
النسخة الإيرانية الجديدة التي أُقصيّ عنها أصحاب العمامات ويتولّى تسويقها وإدارتها تقنيون من مؤسّسات الدولة، يمكن اعتبارهم “تكنوقراط” النظام، بلغة التيارات المدنية الحديثة في المنطقة. ويبدو أن هذه السياسة الجديدة تتجاوز تقنيات التكليف الشرعي وحدود التحريم التي اتُّبعت سابقاً لتتناول التّحدّيات الوجوديّة الجدّيّة التي تعيشها إيران في الداخل على صعيد استمرار النظام بنسخته الحالية كما على الصعيد الخارجي، وتحديداً الإقليمي بالدرجة الأولى.
فالاتّفاق كان اتّفاق الضرورة بعيداً عن لغة التجييش التي استُخدمت لسنوات والتي كان لها الدور الأساس في تعميق الخلافات وإثارة النعرات المذهبية وأخذ المنطقة إلى مواجهة عسكرية محتومة.
تحاول إيران التخلّص من ثوب خطابها الأنتي – أميركي، حيث لم يعد ممكناً الاستمرار في خطابها القائم على اعتبار الولايات المتّحدة الشيطان الأكبر كافياً، ولم يعد الزمن ملائماً للاختباء خلفه ودحض الاتّهامات بشراكة أميركية – إيرانية تقوم على تهديد استقرار المنطقة العربية وتدمير اقتصاداتها وإمكاناتها.
إقرأ أيضاً: الاتّفاق الإيرانيّ – السعوديّ: احذروا القراءة بالمقلوب!
وإذ تعود طهران بعد عقود من الصدام مع دول الجوار إلى بديهيات الجيوبوليتيك في بناء الاستقرار، وأهمّها العلاقات مع الجوار الجغرافي، فإنّ التحقّق من الجدّيّة الإيرانية لا يمكن اقتصاره على سلوكها حيال الصراع في اليمن لبلوغ الحلّ السياسي، بل يتجاوز ذلك إلى شجاعة الخروج من نظريّتَي “استعادة الإمبراطورية ” و”تحالف الأقليّات” نحو الفضاء الإقليمي والإنساني الأوسع، وهذا ما يستدعي انقلاباً حقيقياً في أساسيات الجمهورية الإسلامية.
فهل تقوى طهران على خوض مغامرة التغيير؟
* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات