كتبتُ عن مصر في جريدة “الشرق الأوسط”، وهو المقال الذي نقله عنها موقع “أساس”، وأجبتُ على أسئلةٍ من المفروض أن تُنشر في جريدة “الأهرام المصرية”. وكان المقال بعنوان “مصر واستراتيجيات العقد الحاضر”، لمناسبة مرور عشر سنواتٍ على خروج مصر من الاضطراب ومن هوّامات الإخوان المسلمين.
لكنّ الزملاء المصريين، في هذه المناسبة، ولمناسبة انطلاق الحوار الوطني المصري في الفضائيات والإذاعات، ولشدّة اعتزازهم بالنجاح في الخروج من الاضطراب الذي استولى على دول “ربيع” عام 2011، راحوا يسألونني ويسألون غيري عن أسباب نجاح مصر وفشل غيرها في الخروج من ذلك المأزق أو تلك التجربة المريرة.
ليست مصر كغيرها من الدول العربية التي نزل بها الاضطراب. ففيها جيش وطني، وفيها مجتمع مدني قويّ، وفيها “الدولة العميقة” العريقة، وفيها أيضاً وأيضاً الأزهر والكنيسة القبطية. كلّ تلك الجهات اجتمعت في 30 حزيران والأيام اللاحقة لإخراج الإخوان من سُدّة الحكم، الذي فشلوا فيه فشلاً ذريعاً.
ليست مصر كغيرها من الدول العربية التي نزل بها الاضطراب. ففيها جيش وطني، وفيها مجتمع مدني قويّ، وفيها “الدولة العميقة” العريقة، وفيها أيضاً وأيضاً الأزهر والكنيسة القبطية
لكن أليست في الدول العربية الأُخرى التي يشيع فيها الاضطراب، جيوش وطنية، ومجتمعات مدنية، وهيئات دينية؟
كلّ الدول العربية المضطربة فيها أكثريّاتٌ تريد الاستقرار، وتريد الدولة القويّة، ولا تهوى حركات الإسلام السياسي والميليشيات. لكنّ جيوشها الوطنية، باستثناء تونس التي عاد إليها الاضطراب على أيّ حال، خالطتها في قليلٍ أو كثيرٍ الطائفيات والإثنيات، وتصاعدت فيها حزازات الانقسام وميليشياته، وحصلت عليها التدخّلات الخارجية مع الأنظمة أو ضدّها.
لكنّ المصريين الشديدي الاعتزاز بما حصل، ما يزالون يتساءلون:
هل انتهى الإسلام السياسي بحركاته وتنظيماته؟ لقد انكسر أمنيّاً وتنظيمياً، فهل انتهى فكرياً؟
هذا التساؤل تصعب الإجابة عليه في مصر وغير مصر. فالإخوان لا يستندون إلى التنظيم القويّ وحسب، بل ويستندون إلى عاملين آخَرَين: تعثُّر الدولة الوطنية، والافتقار إلى الفكر الديني والخطاب الديني المستنير.
كان النظام المصري، لا الدولة، متعثّراً، وذلك ليس بسبب أزمة خلافة محمد حسني مبارك ومحاولته توريث نجله فقط، بل وبسبب الفساد المريع، وفشل الأحزاب السياسية، وإعراض الطبقات الوسطى، وتفاقم مشكلات الفقر، وإلى ذلك قدرة الأحزاب الدينية على اجتذاب الفئات الوسطى، وجمود الفكر الديني ونشاط “الإخوان” في الاستقطاب باسم الدولة الإسلامية وشعار: “الإسلام هو الحلّ”. لكن من يمثّل الإسلام بمصر؟ الإخوان والسلفيون أم الأزهر؟!
الدولة الوطنية هي “الدّرع”
بسبب الصدمة والاضطراب خافت الطبقات الوسطى بعد حراك عام 2011 على الدولة، وقد كانت من قبل تخاف منها. وتضامنت القوى المدنية والجيش والجهات الدينية فأُزيل حكم الإخوان. وما كان ضروريّاً من أجل استدامة الاستقرار، انصرفت السلطات الجديدة إليه، فعملت على البنى التحتية، وتنمية الموارد، وتجديد العمران، وتغيير العلاقة بدول الخليج.
الدولة الوطنية الإصلاحية والناجحة هي أكبر أعداء التنظيمات الدينية/السياسية. ولننظر للمقارنة إلى حالة المغرب الذي تحمَّل التنظيم الإسلامي في السلطة لعشر سنوات، ثمّ انكسر هذا التنظيم انكساراً هائلاً في الانتخابات، وبعدما كان له 125 نائباً ما عاد عنده في البرلمان غير 15 نائباً. وما انتظر قيس سعيّد بتونس، ولو انتظر لانكسر راشد الغنوشي في الانتخابات مثلما حصل في المغرب.
عندما تكون الدولة دولة مؤسّسات حقيقية فإنّ الصحويّين لا يستطيعون الصمود في وجهها. وكذلك الأمر في مصر، إذ أكبر ما يصيب التنظيمات الدينية/السياسية بالخذلان هو نجاح الدولة الوطنية في إحداث التنمية المستدامة، ومكافحة الفساد، والإصغاء لهموم الفئات الفقيرة لكي لا تظلّ عالةً على مساعدات الإخوان في معيشتها. وقد حصل كلّ ذلك في مصر، وظهرت الفوارق بعد 30 حزيران تجاه عهد الإخوان القصير، وعهد مبارك الطويل، على حدٍّ سواء.
كلّ الدول العربية المضطربة فيها أكثريّاتٌ تريد الاستقرار، وتريد الدولة القويّة، ولا تهوى حركات الإسلام السياسي والميليشيات
التجربة المغربية أيضاً
الملك محمد السادس ما شجّع الأحزاب السياسية المدنية فقط، بل أجرى حواراً وطنياً شاسعاً، وعدّل الدستور، بل واجترح مدوَّنةً جديدةً للأحوال الشخصية. ولذلك فكرة الحوار الوطني الجاري بمصر هي فكرةٌ مستنيرةٌ جعلت رجالات الدولة والقانونيّين والمثقّفين والإعلاميين يشاركون، فينقدون ويتابعون بل ويراجعون ما تحقّق وأين تعثّر وكيف ينبغي النظر في الإصلاح وفي التجديد وفي بحث خيارات الحاضر والمستقبل.
لكنْ هناك من يقول إنّ مشكلة الإخوان ليست من موضوعات الحوار الوطني الجاري. وقد يكون ذلك صحيحاً، ويمكن بالحوار التفرقة بين من مارس العنف ومن كان عضواً في الجماعة وحسْب، بحيث يمكن الاستيعاب والتجاوُز، ويكون الركون إلى نجاحات الدولة الوطنية التي تستوعب الجميع.
المشروع الفكري والتفكير الديني
تبقى مسألتان:
– مسألة المشروع الفكري: الدولة تعمل على تقوم بمهمّاتها في بناء المؤسّسات وفي الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية وصون السيادة وإحقاق المواطنة. أمّا المشروع الفكري فالاعتماد فيه على المفكّرين والمثقّفين والإعلاميين، إذ هم حَمَلة مشروع الدولة الوطنية المدنية. هذا الأمر الأوّل.
– مسألة التفكير الديني: ينبغي أن لا يكون أو يبقى مظلّةً للإخوان، وذلك عن طريق ثورة في الخطاب الديني تُخرج الإسلام من خاصرة الدولة، وتطرح رؤيةً أخرى لعلاقة الدين بالدولة والجمهور والعالَم. المشكلة ليست عند الإخوان فقط، بل وهناك محافظة دينية قويّة يتعذّر معها الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي. والأزهر ذو تأثير كبير على المتديّنين، بخلاف المؤسّسات الدينية الأخرى في العالمين العربي والإسلامي.
قيل لي إنّ في إندونيسيا جهات دينية قويّة وذات شعبية، وتعمل في السياسة وتناصر الدولة المدنية. والأزهر، كما ظهر من بياناته، عامَي 2011 و2012، هو مع النظام المدني والدولة الدستورية، دولة المواطنة. وهو لا يقول بدولة الخلافة ولا بالدولة الإسلامية. إنّما لا بدَّ من الوضوح في هذا الأمر ليس من أجل الدولة، بل ومن أجل الجمهور، وقد غرّهُ الإخوان على الدوام بشعار: “الإسلام هو الحلّ، فيما لا حلَّ إلّا بالدولة الوطنية. وهذا الأمر هو ما ذكره الأزهر في مؤتمره عام 2016 بعنوان: “المواطنة والعيش المشترك”.
هويّة مصر الأساسية
أدخل المخطّطون للحوار الوطني مسألة الهويّة، ضمن بحوثهم أو ما سيتداولون فيه. وكان المقصود بذلك فيما أظنّ: هل مصر دولة إسلامية أم عربية.. إلخ. وهذا خطلٌ ما بعده خطل. بعد ثورة تموز عام 1952 أصدر جمال عبد الناصر كتابه في “فلسفة الثورة”، وبحسبه فإنّ انتماء مصر، أو شخصيّتها، ذات ثلاثة أبعاد: العربي والإفريقي والإسلامي. والدولة بمصر لا تعاني من غموضٍ في هويّتها ولا في انتمائها إلى الوطن المصري وإلى العروبة وإلى الإفريقية والإسلام. هذا شيء، وهويّة الدولة شيءٌ آخر. وما عاد من الممكن إجراء “فحوص دم” لنحدّد الهويّة العامّة بحسب عقائد الكثرة الشعبية. الناس بمصر في كثرتهم مسلمون. أمّا الدولة إسلاميةً أو غير إسلامية فلكلّ المصريّين.
إقرأ أيضاً: سماسرة الأزمات يتاجرون بمصائر 400 مليون عربي..
لا تعاني مصر، وقد خرجت من أسر الإخوان، من مشكلات الهويّة. بالطبع لديها مصاعب اقتصادية وماليّة لا بدّ من مواجهتها. كما لديها مخاطر استراتيجيّة في ما حولها بسبب المشكلات مع إثيوبيا حول مياه النيل، والاضطراب الكبير الذي يسود في ليبيا والسودان.
أمّا مؤتمر الحوار الوطني فهو فكرة مستنيرة للمراجعة والنظر في الحاضر والمستقبل. والأمل، وقد انتصرت مصر، أن تنجح الدول العربية المضطربة في الخروج من أسر الميليشيات والتدخّلات الأجنبية.