أدخلت الانتخابات الرئاسية الأخيرة تركيا عصراً سياسياً جديداً. تزامنت هذه المرحلة مع اقتراب تركيا من موعدين مهمّين في تاريخها الحديث، هما الذكرى المئوية الأولى لتوقيع اتفاقية لوزان في 24 تموز 1923، ومئوية تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك في 29 تشرين الأول 1923. وقد رسمت الأولى الحدود الحالية للدولة وحدّدت جغرافيّتها السياسية المعاصرة، فيما ثبّتت الثانية الفكر القومي وعلمانية الدولة.
بدأت الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية مع اقتراع أتراك الخارج، واستناداً إلى نتائج هذا الاقتراع شهدت تركيا تغيّراً في طبيعة المزاج التركي. تبدّلت نمطية المجتمع في أسلوب تعامله مع مؤسّساته السياسية، وفي طريقة تعاطيه مع الاستحقاقات الدستورية، وذلك في نتيجة مباشرة للمتغيّرات المحلية والإقليمية والدولية.
تُعدّ هذه الانتخابات مفصليّة بالنسبة لمستقبل الدولة. وتُعتبر امتحاناً واقعياً للرئيس الحالي إردوغان الثابت الأوّل والوحيد منذ عقدين في السياسة التركيّة
فشل كلّ من الرئيس رجب طيب إردوغان مرشّح حزب العدالة والتنمية، وكليجدار أوغلو مرشّح تحالف الأمّة المعارض، في اقتناص الأغلبية البسيطة المطلوبة، أي 50%+1، المرجّحة للفوز بمركز رئيس الجمهورية الثالث عشر في تاريخ تركيا الحديثة. كسرت هذه الانتخابات الكثير من العادات، وبدّلت في التقاليد السياسية التركيّة، ونتج عنها:
– أوّلاً: ساهمت في سطوع فجر الجولة الانتخابية الثانية الانتقالية والمقرّرة نتيجة الفشل في حسم النتيجة من الجولة الأولى لصالح أيّ من المرشّحين للمرّة الأولى في تاريخ تركيا.
– ثانياً: ظهور الدور الأساسي للمرشّح الثالث الذي استُبعد من السباق الرئاسي. أصبح في تركيا “بيضة قبّان رئاسية”. إذ سوف تضطلع الكتلة الشعبية للمرشّح الثالث سنان أوغان بدور مرجّح في الجولة النهائية، وأضحت له الكلمة الفصل في تحديد الأوّل.
– ثالثاً: أظهرت استقطاباً عمودياً متطرّفاً قوميّاً بين الأتراك والأكراد، وأفقياً مذهبياً بين السُّنّة والعلويين.
– رابعاً: ارتفاع نسبة الاقتراع: تخطّت نسبة الاقتراع 88%، وهي دلالة على تفوّق النزعة القومية التركية وعلاقة التركي بدولته، على الرغم من التعدّدية والتردّد في الاختيار الانتخابي، وعلى إصرار على المشاركة بقوّة في كلّ الاستحقاقات الدستورية الديمقراطية.
– خامساً: إحجام الشباب التركي ورفضهم الاقتراع: بيّنت الإحصاءات أنّ الفئة العمرية المشاركة بقوّة في الانتخابات هي بين 45 و60 سنة، وهي مؤيّدة في أغلبها للرئيس إردوغان.
– سادساً: اتّساع الفجوة بين التيارات التركيّة والكرديّة، وإمكانية التقارب بين القوميّتين العلمانية والإسلامية.
تُعدّ هذه الانتخابات مفصليّة بالنسبة لمستقبل الدولة. وتُعتبر امتحاناً واقعياً للرئيس الحالي إردوغان الثابت الأوّل والوحيد منذ عقدين في السياسة التركيّة. تحظى هذه الانتخابات المصيرية باهتمام وترقّب المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية، إذ ستحدّد هويّة الفائز بها الصيغة السياسية لتركيا المستقبلية.
إنّه استحقاق حسّاس بالنسبة لأوروبا وأميركا وروسيا، في خضمّ الأزمات المتتالية والمتواترة المستعرة في العالم، بداية من الحرب الأوكرانية والمسألة الصينية، وصولاً إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومستقبل الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المسائل العربية، وفي مقدَّمها سوريا ومشكلة اللاجئين.
تحظى هذه الانتخابات المصيرية باهتمام وترقّب المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية، إذ ستحدّد هويّة الفائز بها الصيغة السياسية لتركيا المستقبلية
الموقف الأوروبيّ
وصفت وسائل إعلام أوروبا إردوغان بـ”الدكتاتور”، وشبّهته بـ”بوتين تركيا”. غير أنّها اعترفت له بأنّه رجل قويّ ويحظى بشعبية واحترام كبيرين. تفضّل أوروبا شخصاً تكون لديه أفكار كليجدار أوغلو لكن شخصيّة إردوغان وهيبته. لذا هي متردّدة ومرتبكة، وتعيب على كليجدار أوغلو تسرُّعه وخفّته السياسية. فعلى الرغم من تباين إردوغان الدائم مع حلفاء تركيا الغربيين، أثبت طوال عقدين من الزمن أنّه شريك مهمّ ليس فقط في القضايا اللوجستية والأمنيّة الإقليمية، بل وفي الاستراتيجية منها. لقد وفّر إردوغان الطائرات بدون طيار لأوكرانيا في حربها ضدّ روسيا. أغلق المضائق التركية. سعى إلى التفاهم مع الروس. نجح في عقد صفقة الحبوب الأوكرانية بعدما كان فلاديمير بوتين يمنع تصديرها، ونجح في إدارة الأزمات الأوسع نطاقاً، وخاصة أزمة المهاجرين في أوروبا.
تتابع أوروبا مع عواصمها واتّحادها، من باريس إلى بروكسل وبرلين، الانتخابات بحماسة. تترقّب نتيجة الدورة الثانية المقرّرة. يرتفع معيار القلق الخفيّ في حال فوز كليجدار أوغلو، على الرغم من امتعاضها من إردوغان. سيعيد مرشّح تحالف الأمّة المعارض برمجة سياسة تركيا الخارجية إلى مربّعها الأوّل، خاصة علاقتها مع الاتحاد الأوروبي. لن يكتفي بتغييرات في مجال العلاقات التجارية والشراكات السياسية والاتفاقية الحالية والتحديثات الجمركية، بل هو يطمح إلى ما هو أعمق لجهة إمكانية استئناف المفاوضات مجدّداً مع الحلفاء الأوروبيين، في سبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وهو أمر لا يرغب به حالياً الاتحاد الأوروبي، وتفهّم ذلك إردوغان ولم يعد يطالب به أخيراً، خاصة في خضمّ الحرب الأوكرانية الدائرة على حدود أوروبا ميدانياً، وفي داخلها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. لن تتحمّل أوروبا دخول تركيا وأوكرانيا اتّحادها. وباتت تركيا بحسب إردوغان أشمل من الاتحاد الأوروبي المريض نفسه، متحرّرة بسياستها وبانتهاج علاقاتها المفيدة مع كلّ الأطراف، ومكتفية بشراكاتها الأوروبية من بوّابة الحلف الأطلسي.
تتوجّس أوروبا من وصول كليجدار أوغلو إلى سدّة الرئاسة التركية، ولو أنّها تفضّله في سياسته التركية الداخلية، ومن إمكانية العودة إلى أنقرة الأوروبية من خلاله. فهي غير مستعدّة لمغامراته على مستوى السياسة الخارجية، وخاصة ذات النفحة الأوروبية منها. لذلك تشكّل إمكانية فوز شخصية معارضة لإردوغان موقفاً محرجاً للاتحاد الأوروبي، حيث يتمّ التداول أنّ دول شبه جزيرة البلقان وأوكرانيا هي آخر الدول الممكن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بعدما غيّرت الحرب الأوكرانية اللعبة الأوروبية في ما يتعلّق بتركيا.
هذا وانتقد الاتحاد الأوروبي موقف المعارضة التركية من موضوع اللاجئين السوريين وأبدى خشيته من ترحيلهم بالقوّة والتعسّف في حالة فوزها. ويتخوّف الاتحاد من تعرّضه لموجة واسعة وجديدة من الهجرة غير الشرعية تهدّد أمنه وسلامه.
تتوجّس أوروبا من وصول كليجدار أوغلو إلى سدّة الرئاسة التركية، ولو أنّها تفضّله في سياسته التركية الداخلية، ومن إمكانية العودة إلى أنقرة الأوروبية من خلاله
دعم أوروبيّ للرئيس
تسعى أوروبا إلى دعم كليجدار أوغلو في حال فوزه، وستساعده في مسوّداته الداخلية الإصلاحية. ستحفّزه على التعاون معها بصورة بنّاءة وستتفاهم معه على ضبط طموحه في سياسته الخارجية بدءاً من نظريّته تجاه روسيا… لكن من دون تقديم وعود متناثرة ومباشرة بإمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
ستعمد أوروبا إلى التعامل معه كشريك استراتيجي ومهمّ من بوّابة الناتو، ومن خارج الاتحاد الأوروبي في المجالات السياسية والاقتصادية وقضايا اللاجئين، وهذا ما يعني العودة الأوروبية إلى “سياسة الغموض البنّاء، والتعاون الإيجابي على الأجندات المفيدة”.
يستكمل الاتحاد الأوروبي مع إردوغان السياسة المتّبعة حالياً، ويتفاهم معه على السياسة الخارجية الأوروبية والناتو. وعلى الرغم من الكثير من التباينات والاختلافات والخلافات، إلا أنّها علاقة استقراريّة ومفيدة. كان إردوغان قد وقّع في عام 2016 على اتفاق لمكافحة الهجرة غير الشرعية مع الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المواقف التركية الأخيرة المساعدة على توسّع النادي الأطلسي. فعلى الرغم من اعتراضها الشديد على السويد حالياً، إلا أنّها ستوقّع في النهاية مقابل بعض الضمانات والحوافز القوية من الاتحاد الأوروبي، بغضّ النظر عن المشاكل مع اليونان.
المرشّح الثالث صانع الأوّل
أصبح المرشّح الثالث سنان أوزان “صانع الملوك” في تركيا. ويعتمد إردوغان على القوميين المحافظين من الطبقات العاملة والريفية. ويُعدّ فوزه وهو يمكن أن يفوز بالرئاسة نتيجةً للشراكة بين القومية المحافظة الإسلامية والقومية العلمانية التي تقدّس الدولة التركية.
فهو أدرك أنّ التحالف الغربي أفضل ضمانة أمنيّة لتركيا، ولذلك يسعى إلى موازنة علاقته مع الغرب بالاستفادة من المزايا الجيوسياسية. تريد أوروبا إردوغان، على الرغم من تفضيلها كليجدار. إنّه انفصام سياسي في أوروبا واتّحادها، من أجل النجاح في تأمين الطاقة، وتنفيذ أو تمرير المشروع الخاص بنقل الغاز من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر تركيا. ذلك أنّ التحدّي الأساسي للاتحاد الأوروبي هو بقاء إردوغان، ليس لشخصه، بل في سبيل الحفاظ على استاتيكو التعاون في القضايا ذات الاهتمام السياسي المشترك والمفيد، وذلك للأسباب التالية:
1- تركيا شريك تجاري مهمّ جدّاً، إذ تُعتبر “صين أوروبا” حتى لو كانت تمرّ بمرحلة اقتصادية صعبة.
2- إمكانية تكريس حالة “اللافيتو” مع إردوغان بخصوص توسيع حلف شمال الأطلسي، وقبول بعض الدول الراغبة في الدخول إلى معسكر الناتو.
3- تدويره الزوايا السياسية مع روسيا واعتباره الضمانة للمصلحة الطاقوية الغازيّة المتمثّلة في نقل الغاز عبرها إلى أوروبا من منطقة آسيا الصغرى.
إقرأ أيضاً: تركيا: كيليشدار أوغلو.. التانغو الأخير؟
يتقدّم إردوغان في السياسة الخارجية مع تصريحات عدّة جهات مراقِبة دولية بأنّ المجتمع الدولي لا يرغب بهزيمة إردوغان لأنّه ليس مستعدّاً للتعامل مع وضع سياسي جديد ومغمور في تركيا. الملفّ الخارجي هو الأضعف بالنسبة لكليجدار أوغلو، فيما يتّصف إردوغان بالدهاء والبراغماتية، التي مكّنته من استغلال الأزمات والأحداث الإقليمية والدولية لصالح تركيا. لذا في حال عدم حصول مفاجأة غير متوقّعة، إذا توّج إردوغان من جديد على سدّة الرئاسة التركية… فأوروبا ستكون راضية، دون حماس.