بارزاني وطالباني: تقسيم المُقسّم…

2023-09-30

بارزاني وطالباني: تقسيم المُقسّم…


كشفت الخلافات السياسية التي يعيشها إقليم كردستان وحكومته وإدارته أنّ الأمور بين إربيل بقيادة مسعود البارزاني، والسليمانية بقيادة بافل طالباني، ذاهبة إلى مزيد من التباعد مع ما فيه من ارتفاع لحدّة الصراعات بينهما. وهو تباعد قد ينتهي إلى انفصال أو انقسام، وإن لم يحصل ذلك، فإنّ الطرفين سيكونان محكومين بتعايش على “زغل” إلى أن يتحقّق التوازن بينهما في تسوية جديدة، أو يتغلّب طرف على طرف ويحسم الأمور لمصلحته.
يستند التصعيد، الذي تعتمده السليمانية في تعاملها مع إربيل ومخاطبة الحكومة فيها، في خلفيّته إلى ما تقول قيادة حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” أنّه حقائق اجتماعية وسياسية لدى أبناء المكوّن الكردي، وقناعات لدى هؤلاء بأنّ حكومة إربيل تمارس عمليات قمع ممنهج للحرّيات السياسية وحرّية التعبير والرأي على العكس من إدارة السليمانية. الأمر الذي ولّد لدى أكراد السليمانية وكركوك رغبة في عدم استعادة أجهزة الأمن التابعة لإربيل لدورها ونفوذها في هذه المناطق، خاصة في كركوك، حتى لو أدّى ذلك أو انتهى إلى قرار صعب بانفصال المحافظات التي تشكّل مناطق سيطرة حزب الاتحاد إدارياً عن إربيل. وهو تطوّر إذا ما حصل فسيعني انهيار الحكم الموحّد للإقليم القائم على الشراكة بين السليمانية وإربيل، واقتراب الأولى أكثر من بغداد وفتح حوار من أجل إمكانية عودتها جزءاً من الحكومة الاتحادية “الإطاريّة”. خاصة أنّ زعيم السليمانية وحامل لواء التصدّي لنفوذ إربيل والبارزاني، بافل طالباني، أبدى مثل هذه الرغبة من أجل التخلّص من هيمنة مَن يصفهم “عائلة البارزانيين” على مقدّرات وسياسات الإقليم وإدارته وثرواته.
النتيجة السياسية المباشرة لمثل هذا التحوّل أو القطيعة أو الانفصال أو الانقسام الكردي، هي خروج مراكز الثقل من إربيل وانتقالها إلى السليمانية التي ترتبط ببغداد والقوى السياسية “الإطارية” فيها بعلاقات وثيقة وتحالفات واسعة، وبالتالي انتقال السليمانية إلى لعب دور “بيضة القبّان” في أيّ تركيبة سياسية أو تحالفات سياسية على المستوى العراقي وبين المكوّنات التي يتركّب منها المشهد العراقي.

في ظلّ تراجع تأثير الخطاب القومي للبارزاني وقدرته على تحشيد الرأي العام الكردي معه ووراءه، يمارس طالباني وحزبه عملية استقطاب لهذه القواعد لتوسيع نفوذهما وتقديم نفسيهما البديل الطبيعي القادر على عقد تسويات مع بغداد

استغلّ طالباني وحزب الاتحاد الوطني تراكم الاعتراضات الشعبية الكردية على سياسات إربيل الاقتصادية والحياتية والمالية لتعزيز مواقفهما في مواجهة إدارة بارزاني وقيادته التي يصفونها بأنّها تحوّلت إلى “حكم الأسرة” وليس العشيرة، وأنّها السبب في تراجع القدرات الشرائية للمواطن الكردي الذي بات يعيش الفقر والمجاعة في كثير من الأحيان، خاصة أنّ حكومة إربيل عاجزة غالباً عن دفع الرواتب للموظفين، وفي حال دفعتها لهم تستقطع الجزء الأكبر منها تحت عنوان الادّخار المستقبلي. وجعلت هذه السياسة من الأزمة المالية للإقليم أزمة مزمنة في ظلّ غياب أو عجز القيادة في إربيل عن تقديم حلول ناجعة لها، باستثناء ما تمارسه من سياسة ابتزاز وضغط على بغداد للحصول منها على دعم مالي.

البرزاني في “بيت طاعة” بغداد..
في ظلّ تراجع تأثير الخطاب القومي للبارزاني وقدرته على تحشيد الرأي العام الكردي معه ووراءه، يمارس طالباني وحزبه عملية استقطاب لهذه القواعد لتوسيع نفوذهما وتقديم نفسيهما البديل الطبيعي القادر على عقد تسويات مع بغداد وحكومتها الاتحادية، مستغلّين في ذلك النقمة الواسعة والكبيرة على أداء إدارة الإقليم. في المقابل ترى بغداد أنّ ما تعانيه وتواجهه قيادة الإقليم من أزمات وتراجع الثقة الكردية بخطابها وأدائها، يشكّل فرصة سانحة لها لمحاصرة البارزاني وحزبه وإضعاف دوره ونفوذه وسحب ورقة التحكّم بموازين التحالفات، تمهيداً لإعادته وإدخاله “بيت الطاعة”. وقد عمدت إلى تعميق الجراح في جسد حكومة إربيل عندما عمدت إلى توقيف تصدير النفط عبر الأنبوب الذي يمرّ في الأراضي التركية بعد الخلاف مع أنقرة حول الرسوم والبدلات المتراكمة، الأمر الذي أفقد حكومة الإقليم مصدراً مالياً أساسياً يضاف إلى تعطيل العمل بقانون النفط والغاز وإلزامية تحويل عائدات بيع النفط إلى المالية الاتحادية وتقليص الدفعات المالية إلى المستوى المحدّد في الدستور وميزانية الدولة العامة الذي لا تتجاوز قيمته نسبة 12.67 في المئة من الميزانية العامة.

الجرعة المسكّنة الأخيرة التي أقرّتها بغداد بعد زيارة مسرور بارزاني رئيس حكومة الإقليم، وتخصيص مبلغ 700 مليار دينار لدفع رواتب الموظفين، يقابلها فتح باب البحث في إمكانية إدراج مرتّبات قوات البيشمركة والأجهزة الأمنية في الإقليم على لوائح رواتب القوات المسلّحة باعتبارها جزءاً منها، وهذا يعني في حال حصل خسارة إربيل لإحدى أقوى أوراقها العسكرية والأمنيّة، لأنّ قبضتها على هذه القوات ستتراجع وستنتقل آمرية هذه القوات إلى بغداد والحكومة الاتحادية ورئيسها باعتباره القائد العامّ للقوات المسلحة.
من غير المستبعد أن تكون هذه الجرعة المسكّنة التي قامت بها بغداد قد جاءت بناء على إشارة من الحليف الإيراني الذي لا يرغب بحصول انهيار في الوضع الكردي وإمكانية حصول خلل أو فلتان أمني يضرب الاستقرار على حدودها، خاصة بعدما استطاعت فرض أجندتها الأمنية والعسكرية على قيادة الإقليم وأجبرتها على تنفيذ شروطها المتعلّقة بأمنها القومي التي قضت بتفكيك قواعد ومعسكرات الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة على الشريط الحدودي المشترك ونقل آمرية هذه الحدود إلى القوات المسلّحة وجهاز أمن الحدود في الحكومة الاتحادية، وإنهاء أيّ نشاط لهذه الأحزاب والجماعات داخل إربيل ونقلهم إلى معسكرات خاضعة لإشراف وحراسة قوات الحشد الشعبي في صحراء الأنبار.

إقرأ أيضاً: هكذا ضربت بغداد “زعامة” كركوك

عودة إربيل إلى التعامل الإيجابي مع بغداد ستتعزّز في المرحلة المقبلة، خاصة تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في ظلّ حديث عن إمكانية مغادرة الشركات النفطية والاستثمارية الدولية الإقليم وإيقاف تعاملاتها مع إربيل في حال استمرّت الأزمة وتفاقمت، وإدراك قيادة الإقليم أنّ التعامل الدولي الأميركي والأوروبي معها بات في أسفل سلّم اهتمامات تلك الدول، وهو ما قد يدفع إربيل للارتماء أكثر في حضن بغداد ومن ورائها طهران، على الأقلّ لضمان استمرارية الدعم المالي من ضمن الموازنة الاتحادية والحصول على حصّة الإقليم منها.

 

في الحلقة الثالثة والأخيرة غداًإيران تنتقم: تفتيت “الدور” الكردي 

مواضيع ذات صلة

بعد سنة على أكتوبر 2023

اليوم ندخل العام الثاني على حربٍ أبرز خصائصها المفاجآت. إسرائيل فوجئت باجتياحٍ اخترق حصونها وكان الأخطر والأعلى خسائر في تاريخها منذ قيامها. وأمريكا فوجئت بهشاشة…

خدمة قدّمها خطاب خامنئي

تختصر خطبة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في تأبين حسن نصرالله، كلّ العلل التي أصابت لبنان، ولم تزل.   دعوته للّبنانيين أن “قاوموا”، مصحوبةً بلغة…

يتغيّر اللّاعبون ويبقى الشّرق الأوسط نفسه

لا تزال الضحايا السياسية تتهاوى من واشنطن بعد عام على طوفان الأقصى من طهران وصولاً إلى دمشق ومعهم آلاف الضحايا من اللبنانيين والفلسطينيين.   عام…

عام على 7 أكتوبر: حروب التّفاسير و”مكانك راوح”

بعد عام كامل على عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة حماس في غلاف قطاع غزة، وجرّت حرباً إسرائيليةً وحشيةً على الشرق الأوسط برمّته، لا على…