حرب من دون قتال

مدة القراءة 4 د

تختصر المشكلة في إيطاليا الأزمة العميقة التي تواجهها الدول الأوروبية، الغربية منها والشرقية على حدّ سواء. وتمتدّ جذور هذه الأزمة عميقاً في تكوين مجتمعات هذه الدول. وتتمحور حول الديمغرافيا السكانية.
تقول الدراسات الرسمية إنّه حتى يتحقّق التوازن العددي بين نسبة المواليد ونسبة الوفيات، يُفترض أن لا تقلّ نسبة المواليد لكلّ امرأة أوروبية عن 2.1 طفل.

استفحال الأزمة
غير أنّ هذه النسبة هي دون ذلك بكثير. فهي تبلغ 1.40 في البرتغال، و1.19 في إسبانيا، وتنخفض كلّما اتجهنا شمالاً وشرقاً. أمّا في إيطاليا فتصل النسبة إلى 1.24 (إحصاءات 2020).
هذا يعني أنّ نسبة الوفيات هي أعلى من نسبة الولادات. وترجمة ذلك تراجُع في عدد سكّان الدولة، وتراجُع في نسبة اليد العاملة المحلّية، وارتفاع في نسبة المتقاعدين الذين يعيشون على التعويضات المالية من الدولة. ويعني ذلك أيضاً إنتاجاً أقلّ، والتزامات مالية أكثر. وهو ما تخشى فرنسا من مواجهته في المستقبل القريب، الأمر الذي أملى على حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً.
ساعدت الاكتشافات الطبّية على استفحال هذه الأزمة الاجتماعية من خلال حبوب منع الحمل وعمليات الإجهاض.

ترفض إيطاليا فتح أبواب الهجرة لملء الفراغ أو للتعويض عنه خوفاً على الانسجام الاجتماعي وعلى الهويّة الوطنية الإيطالية

كان الوضع مختلفاً قبل ذلك. كان يوجد في مدينة فلورنسا الإيطالية (من حيث انطلقت شعلة النهضة الأوروبية) مستشفى تحوَّل الآن إلى “متحف للمواليد الأبرياء”. يحتفظ هذا المتحف (المستشفى) بمجموعة كبيرة من التحف المكسورة.
كانت المرأة بعد أن تضع مولودها في المستشفى وتقرّر التخلّص منه، سواء لأسباب مادية أو لأسباب اجتماعية، تترك للمستشفى مسؤولية الاحتفاظ بالمولود والاعتناء به إلى أن تقرّر هي أو عائلته استعادته فيما بعد (هذا إذا قرّرت ذلك). ولكن كان على الأمّ التي تتخلّى عن مولودها أن تقدّم لإدارة المستشفى بعد الولادة وعاء من زجاج. وكان هذا الوعاء يُقسم إلى قسمين: الأول يُسجَّل عليه اسم المولود واسم والدته ويُحتفظ به في المستشفى. والقسم الثاني يُترك للوالدة للاحتفاظ به حتى إذا ما قرّرت يوماً استعادة مولودها، وكان المولود في معظم الحالات أنثى، تُبرز نصف الوعاء المكسور، وبذلك تتأكّد الإدارة أوّلاً من شرعية طلب الاسترداد، وثانياً من صحّة هويّة الطفل الذي تريد عائلته استعادته.

متحف المواليد الأبرياء
يحمل اليوم هذا المستشفى – المتحف اسم “متحف المواليد الأبرياء”. كانت ظاهرة التخلّي عن المولود، إذا كان أنثى، منتشرة أيضاً في المجتمع الجاهلي العربي قبل الإسلام. لم يكن هناك مآوٍ. كان الدفن بالتراب. حرّم الإسلام ذلك بنصّ في القرآن الكريم: “وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنب قُتلَت” (سورة التكوير، الآيتان 8 و9). ورفع الإسلام من شأن المرأة وأقرّ لها بحقوق ما كانت تتمتّع بها من قبل. ومن هذه الحقوق ما يتقدّم على حقوق المرأة حتى في مطلع النهضة الأوروبية.
في يومنا الحاضر تواجه إيطاليا المشكلة بوجهَيها الإنساني والاقتصادي. فعلى الصعيد الأول، تواجه نقصاً حادّاً في عدد المواليد. وعلى الصعيد الثاني تواجه عجزاً ماليّاً حادّاً، إذ تصل نسبة الدين العام إلى 147 في المئة من الدخل القومي.
لا يمكن معالجة هذه المشكلة المتفاقمة إلا بمزيد من الإنتاج الاقتصادي والتنموي. وهو أمر يحتاج إلى يد عاملة. والنقص الحادّ في المواليد لا يوفّر هذه اليد العاملة.
ترفض إيطاليا فتح أبواب الهجرة لملء الفراغ أو للتعويض عنه خوفاً على الانسجام الاجتماعي وعلى الهويّة الوطنية الإيطالية. ليست إيطاليا وحيدة في مواجهة هذا الواقع. فرنسا وبريطانيا وألمانيا تعاني منه أيضاً.

إقرأ أيضاً: العدّ العكسي لصدام نووي

بعد الحرب العالمية الثانية التي حصدت الشباب الألماني، اضطرّت الدولة إلى تشجيع الهجرة التركية لملء فراغ اليد العاملة في المصانع والمزارع. نجاح تلك التجربة شجّع المستشارة أنجيلا ميركل على فتح أبواب الهجرة السورية إلى ألمانيا لملء الفراغ الناتج عن تناقص المواليد في العائلة الألمانية. اليوم أصبح ربع الشعب الألماني يتحدّرون من أصول غير ألمانية. تخشى فرنسا من اعتماد مثل هذه التجربة، وترفع الشعار التحذيري – التخويفي الذي يحذّر من “الاحتلال من الداخل”، بمعنى أن يؤول الأمر إلى تكاثر المهاجرين القادمين من دول لها ثقافات وعقائد وعادات وتقاليد مختلفة.
هكذا تقف الدول الأوروبية انطلاقاً من التجربة الإيطالية بين أمرين: إمّا تحمّل أعباء ونفقات زيادة أعداد الأسرة، ورفع سنّ التقاعد، أو فتح أبواب الهجرة وزيادة خطر التمزّق الاجتماعي.
إنّها الحرب المقبلة في أوروبا، حرب من دون قتال ومن دون إطلاق رصاصة واحدة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…