إيران تسرق ياسمين الشام: اغتيال نزار… بعد بلقيس

مدة القراءة 9 د


دخلوا لزيارة السيّدة زينب، حفيدة النبيّ. على امتداد التاريخ ما كان يمسّ المرقد أيّ سوء. ثمّ أقاموا في محيط مرقدها. تسلّلوا كما اللصوص. بعد ذلك أدخلوا بنادقهم ومدافعهم وصواريخهم. أمعنوا في السوريين قتلاً وتدميراً وإجراماً.
حاولوا سرقة آمال الشعب السوري وتوقه إلى الحرّية، لكن هل تُسرق إرادة؟ بعدها انطلقوا لشراء الأراضي، تارةً بمساعدة التجّار مستغلّين جشعهم، وتارةً بمعونة الأهالي مستغلّين انتماءهم الديني. ثمّ وقفوا على قاسيون، فتلألأت أمام أعينهم أسواق الياسمين وبيوته.

الفُرس يسرقون ياسمين سوريا
لا إشارة أو لافتة تشير إلى وجود بيت نزار قباني (1923-1998) في الحارة المتفرّعة عن الشارع المستقيم في دمشق، فالمنزل الواقع في حيّ “مئذنة الشحم” وسط البلدة القديمة، كان قد شهد طفولة الشاعر ونشأته منذ عشرينيات القرن الماضي. وفيه فتح نزار عينيه للمرّة الأولى على جنّة من الورد والأشجار والروائح.
لولا أن تطوّع الباحث علي مبيض أخيراً، على ما يقول الزميل سامر محمد إسماعيل في “الإندبندنت العربية”، ووضع لافتة صغيرة على باب منزل الشاعر الراحل حملت مطلع قصيدة له، لما عرف أحد تاريخ هذا البيت الذي اشترته عائلة عباس نظام من آل القبّاني عام 1968.
كان البيت أيضاً شاهداً على نشاط حركات التحرّر الوطني ضدّ المستعمر الفرنسي، ولطالما كانت باحته ملاذاً لصفوف المتظاهرين، وموئلاً لهم للاستماع إلى خطب وبيانات يلقيها رجال الثورة السورية، وعلى رأسهم فوزي الغزي الملقّب بأبي الدستور السوري. ثمّ كانت الحشود الغاضبة تنطلق من بيت القبّاني إلى كلّ ساحات العاصمة السورية.

عاد الإيرانيون إلى قاسيون مزهوّين. ها هي دمشق أمام ناظرينا، قالوا، وتحت رحمة نيراننا ورصاصنا، وفي متناول حقدنا

سليماني وفخري زادة في بيت قبّاني
بدلاً من أن يكون بيت صاحب “هكذا أكتب تاريخ النساء” مقصداً للزوّار، ومتحفاً لمقتنياته الشخصية ومؤلّفاته، أسوةً ببيوت كلّ من أحمد شوقي في القاهرة، وتشيخوف في يالطا، وفيكتور هوغو في باريس، وجبران خليل جبران في لبنان، فقد صار بيت قبّاني اليوم منتدى ثقافياً وسياسياً إيرانياً.
الرديء الذي لا يُحتمل أنّ “اتّحاد الكتّاب العرب” نظّم في تشرين الثاني من عام 2020 أوّل نشاط لشعراء إيرانيين وسوريين قرأوا قصائدهم في باحته، رثاءً لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، والعالم النووي والضابط في الحرس الثوري محسن فخري زادة، وجاءت تحت عنوان “مؤتمر نهج الشهيدين”.
هكذا استحالت أشجار النارنج والياسمين والبيت الدمشقي إلى معرضٍ لصور سليماني وزادة والخامنئي. الرثاثة الأبشع كانت في الخطب والقصائد السياسية في دار نزار قباني التي كتب فيها الحبّ والحياة والمرأة. وكتب فيها معنى الديكتاتورية كمعادل سياسي للهزيمة. في هذه الدار غنّى لبيروت وطالبها بالنهوض. وفي هذه الدار حرّر المرأة وقاتَل الذكورية. وفيها قال إنّ الحرّية هي الإنسان، وإنّ الأحرار مطالبون بالوفاء لقيمهم.

علامة الحياة والقيامة
لم تحتمل أنوف الإيرانيين عبق التاريخ المنبعث من دمشق، معقل التاريخ، وقلب العرب والعروبة، وعاصمة الأمويين الذين “ألحقوا الدنيا ببستان هشام” (بن عبد الملك)، كما صدح كبير شعراء لبنان والعربية سعيد عقل.
تحت جنح الظلام راحوا يفتعلون الحرائق في الأسواق العتيقة. تحت أشعّة الشمس كانوا يتقدّمون نحو أصحاب المحالّ والبيوت، حاملين في أيديهم سبحاتهم. ختموا أصابعهم حتى القباحة. نسوا أو تناسوا أنّ يزيد بن معاوية أوّل من أدرج التختّم الكثيف. ما سنّه النبيّ في التختّم كان عقلانياً خاطب الأناقة.
أطلقوا العنان للحاهم كي يبدوا على هيئة القدّيسين. في أياديهم حملوا حقائب الذهب الأخضر، “ذهب الشيطان الأكبر وجورج واشنطن”، لشراء ما أحرقوه في ليل عربي دامس. هم أنفسهم أشعلوه من غزّة إلى اليمن. لم يرحموا لبنان لؤلؤة الشرق ذات مرّة. فتكوا ببغداد كما لم يفعل هولاكو.
من باعَ سَلِمَ. ومن عاند خُطف وسُجن وقُتل… ثمّ بُعث حيّاً ليبيع.

دمشق لا تفتح أبوابها إلّا لمن يدخل إليها سلاماً وحبّاً ومزوّداً قبل كلّ شيء بالكلمة والنغم والفكر واللغة. من أتى بغيرها ما دخلها ولو أقام فيها دهراً. قرأ الإيرانيون التاريخ جيّداً وفهموا الرسالة

آخر الضحايا قصر عبد الرحمن يوسف باشا، أوّل بيت دمشقي دخلته الكهرباء عام 1907، وقصر – متحف خالد العظم، وما فيه من تاريخ ووثائق وآثار، وما بينهما من بيوت مفتوحة على جهات الأرض الأربع، ومفتوحة على التاريخ والحبّ والعطر.
عاد الإيرانيون إلى قاسيون مزهوّين. ها هي دمشق أمام ناظرينا، قالوا، وتحت رحمة نيراننا ورصاصنا، وفي متناول حقدنا. فلننزل إليها. لكنّها على جري عادتها منذ أرض، لا تعرف دمشق إلّا أن تفتح ياسمينها، وتفوح. أصابتهم في مقتل. شهرت عطرها وشعرها وطربها وحكاياتها وفنونها… فهربوا.
عادوا إلى قاسيون مرّةً أخرى: فلفظهم. أدركوا أنّهم لم يدخلوا دمشق، ولا احتلّوها. وهيهات هيهات أن يمتلكوها. من المؤكّد أنّ قاسيون قال لهم: حدّقوا في التاريخ مليّاً؟ سلوا هولاكو. اقرأوا في الكتاب المقدّس، ألم تصلكم نبوءة أشعيا عنها؟ ألم تعرفوا أنّ دمشق تزول في آخر الزمان، حين توشك الأرض على الزوال؟ ألم تعرفوا أنّ دمشق من علامات الحياة كما من علامات القيامة؟

قارورة العطر
ليس للإيرانيين في دمشق غير البنادق والمدافع والرصاص والميليشيات. ودمشق لا تفتح أبواب قلبها إلّا للموسيقى والشعر والفنون على أنواعها. دمشق لا تستقبل المدجّجين بالكراهية والعنصرية والحقد. دمشق عاصمة العطر والحبّ والسلام.
دمشق لا تفتح أبوابها إلّا لمن يدخل إليها سلاماً وحبّاً ومزوّداً قبل كلّ شيء بالكلمة والنغم والفكر واللغة. من أتى بغيرها ما دخلها ولو أقام فيها دهراً. قرأ الإيرانيون التاريخ جيّداً وفهموا الرسالة.
فتّش الإيرانيون بين أشجار الياسمين والنارنج مجدّداً، فعثروا على “قارورة عطر” درج فيها وخرج منها الشاعر الدمشقي السوري العربي نزار قبّاني، فوّاحاً في دنيا المرأة والحرّية والعروبة. لم يسكن نزار قباني في بيت على الرغم من البيوت الكثيرة التي تنقّل بينها.
يقول الكبير نزار قباني في “قصّتي مع الشعر”: “هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة. ثقوا أنّني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، بل أظلم دارنا”.
لم يعرف قبّاني مدناً غير دمشق. ولم يتزوّج بغيرها. كانت دمشق هي النساء جميعاً. يقول لها في إحدى قصائده:
فرشت فوق ثراكِ الطاهر الهُدُبا… فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيةٍ… على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأةٍ… أحببتُ بعدك إلّا خلتها كذبا.

عرف الإيرانيون من هو حاكم دمشق الفعليّ. حاكمها هو نزار قباني لا بشّار الأسد. وقصر الحكم فيها “قارورة العطر” تلك

الجديد ـ القديم عند الإيرانيّين
عرف الإيرانيون من هو حاكم دمشق الفعليّ. حاكمها هو نزار قباني لا بشّار الأسد. وقصر الحكم فيها “قارورة العطر” تلك. لا قصر المهاجرين. أدركوا أنّ السلاح في دمشق لا يغيّر المعادلات ولا يقلب الموازين.
وحده الشعر يفعل ذلك. وحده الفنّ يضطلع بهذا الدور، في بلاد الياسمين. لهم في جمال عبد الناصر مثال على ذلك. حكم الرئيس المصري الراحل دمشق زمن الجمهورية العربية المتحدة بعبد الحميد السرّاج، وخرج، بينما أمّ كلثوم ما تزال فيها حتى يومنا هذا تهزّ سرير الليل لينام ويشرق النهار. لهم في قصيدة محمد مهدي الجواهري عام 1956، في رثاء الشهيد عدنان المالكي، خير مثال أيضاً، ومطلعها:
خلّفت غاشية الخنوع ورائي … وأتيت أقبس جمرة الشهداء.
عرف الإيرانيون جيّداً السرّ، وبيت القصيد، فوضعوا أيديهم على منبت عطر اسمه نزار قباني، ساعةً لتكريم “شهدائهم” ناشري الموت والرعب، وساعةً لتكريم “علمائهم” صانعي وسائل القتل وموادّه الأحدث في العالم، وساعةً ليكون مقرّاً لـ”ثقافتهم” (ثقافتهم؟) و”فنّهم” (فنّهم؟)، ثقافة الموت أو فنّ الموت.

القتلة وذلّ عارهم
لقد قتلوا نزار قباني منذ زمن بعيد. قتلوه يوم بعثروا جثّة حبيبته أشلاءً. حصل ذلك يوم فجّروا السفارة العراقية في بيروت. حينها قتلوا بلقيس حبّه الأزلي. لم يقتلوا حبّاً وجمالاً آخّاذاً فقط.
يوم فجّر الإيرانيون ومعهم نظام الرئيس حافظ الأسد السفارة العراقية قتلوا عروبةً وضّاحة على مساحة الوطن العربي البائس والمهزوم في كلّ شيء. كان نزار قبّاني سبّاقاً في رؤية البؤس الذي اجتاحنا جميعاً ونحن لا نجيد إلّا الهتاف ورفع بنادق قتلَتْنا وقتلَتْ كلّ حظٍّ في بناء دولٍ حديثة.
آنذاك، قال الصواب السياسي الأوضح في رثاء بلقيس. تسامح مع القتلة حتى الثمالة. غفر لأغبياء لا يحبّون غير الدم والقتل والقهر. طلب فقط منهم أن يعرفوا من قتلوا. ترفّع حتى الشكر.

بلقيس حكاية قبائل عربيّة
كان رثاء بلقيس بياناً سياسياً عن تاريخ الكذب والقتل. شكّل الرثاء فرادة لغوية في أداة الاستثناء “إلّا نحن”. يحار المرء حتى اليوم وهو يقرأ القصيدة كيف ومن أين يُقاربها: “شكراً لكم.. شكراً لكم.. فحبيبتي قُتلت.. وصار بوسعكم أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة. وقصيدتي اغتيلت.. وهل من أمّةٍ في الأرض.. إلّا نحن تغتال القصيدة؟ بلقيس.. كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل.. كانت أطول النخلات في أرض العراق.. كانت إذا تمشي.. ترافقها طواويس.. وتتبعها أيائل.. بلقيس.. يا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل.. يا نينوى الخضراء.. يا غجريّتي الشقراء.. يا أمواج دجلة.. قتلوك يا بلقيس.. أيّة أمّةٍ عربيةٍ.. تلك التي تغتال أصوات البلابل؟ أين السموأل؟ فقبائلُ أكلت قبائل.. سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب.. فهل البطولة كذبةٌ عربيةٌ؟ أم مثلنا التاريخ كاذب؟

إقرأ أيضاً: سهيل إدريس في ذكراه… أين أسئلته؟

دمشق نزار قباني عالم الخير الأكبر
بيت نزار قباني قارورة عطر، وغُزاته مقابر متنقّلة لا تنبعث منها إلا روائح الموت. بيت نزار قباني “دمشق الصغرى” كما كتب. إنّه “دمشق الصغرى” التي تنطوي فيها دمشق الكبرى، وينطوي فيها عالم الجمال والعطر والخير الأكبر.
لو جاء حافظ الشيرازي إلى دمشق، لما استقبلته إلّا في بيت نزار، وما نام إلّا على سريره. ولكن أن يأتي العدم، باسم الثقافة والشعر، فهيهات هيهات أن ينام على سرير دمشقي، أو يقف على منبر من ياسمين، أو يشرب من بَرَدى ولو بعد حين…

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…