تواجه مهمّة المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاص، وزير الخارجية الأسبق جان إيف لودريان، في لبنان ثلاث عراقيل مختلفة في النطاق، متداخلة في الآثار ومتشابكة في التأثير، وهي:
1- فرنسية داخلية: تعترض بعض الجهات الفرنسية الداخلية غير الرسمية على طريقة التعاطي الفرنسي مع الأزمة اللبنانية. امتعض بعض النواب في الجمعية الوطنية (مجلس النواب الفرنسي)، وبعض الشيوخ في مجلس الشيوخ الفرنسي على الأسلوب الذي تنتهجه الإليزيه في أسلوب تعاملها مع الملفّ اللبناني، ولا سيّما النمطية الحراكية التي يتبعها المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان في بيروت. فقد شكّلت رسائله الأخيرة مادّة دسمة لارتفاع وتيرة الاعتراضات لجهة كونها غير دبلوماسية وخادشة للسيادة ومتجاوزة لحدود المؤسّسات الدستورية والسياسية. لا تعكس هذه الآراء القرار الفرنسي الرسمي، وهي تصريحات سياسية خاصة تعبّر فقط عن أصحابها. تعكس هذه المشهدية بوضوح التخبّط السياسي الفرنسي الداخلي الواضح الذي سبّبته تحوّلات الظروف الطارئة والآنيّة، والتغيّرات في المزاج السياسي المحلّي. صاحَب كلَّ هذه الأمور ضمورٌ وشللٌ عمليٌّ أصابا العديد من المدارس والأحزاب السياسية الفرنسية، ونتج عنهما ظهور الاختلافات والتباينات في السياسة الخارجية الفرنسية ومسوّداتها وأولويّاتها.
تشير معلومات فرنسية خاصّة جداً في أروقة “الكي دورسيه” الدبلوماسية إلى أنّ هناك مساعي دولية لإحراج المساعي الفرنسية الجديدة، وبالتحديد مساعٍ إيرانية تعمل على عرقلة أهداف اللقاء الخماسي
2- لبنانية محلّية: وضعت فرنسا نفسها في موقف محرج في لبنان، نتيجة سلوكها السابق. كادت أن تتحوّل من كونها وسيطاً نزيهاً إلى طرف في لبنان. أوقعتها المبادرة السابقة التي نادت بوصول الوزير الأسبق سليمان فرنجية إلى سدّة رئاسة الجمهورية بحجّة الحلّ السريع، في فخّ خسران الذات الفرنسية، والثقة من قبل بعض المكوّنات اللبنانية. ولم تستطع إلى الآن نفض غبار ورواسب تلك الخطيئة. حتى مع تسلّم الوزير جان إيف لودريان زمام الإدارة الفرنسية وقيادة الملفّ، شكّلت عبئاً إضافياً له. يحاول استرجاع الوزنات. لكن ما يزال التخوّف من العودة إلى المبادرة، على الرغم من إعلان فرنسا الصريح تأييدها للإجماع الخماسي والبيان الثلاثي، وعدم التداول رسمياً في الأسماء بل في المواصفات، إذ يتوجّس ويرتاب قسم كبير من أهل السياسة في لبنان من أيّ حركة فرنسية حتى لو كانت جديدة.
3- خماسيّ دوليّ: جعلت فرنسا من نفسها شريكاً مضارباً مع المجموعة الخماسية الدولية. أدخلها نشاطها المنفرد وعزفها المستقلّ على وتر الملفّ اللبناني، في إحراج كبير مع أصدقائها وحلفائها. كانت تجتمع وتقرّر معهم. توقّع على البيانات والبنود وخطط العمل، لكنّها في الوقت نفسه تنفرد في انتهاج مسار والاتّفاق على مناهج ومبادرات موازية ومخالفة لسلّم الأولويّات بحجّة الحلّ السريع والاستقرار.
شكّل لقاء الدوحة الأخير الحدّ الفاصل لكلّ هذه البهلوانيات السياسية غير النافعة ولا الجديرة. اعتزلت سيرتها الأولى. لكنّها لم تستعِد الصدقية الكاملة. أصبح التعامل معها على القطعة وضمن إطار البيان الثلاثي فقط. ترافق ذلك مع تسليم الملفّ فرنسياً إلى شخصية تحظى بالقبول والعلاقات الطيّبة دولياً وعربياً ولبنانياً، وهذا ما زاد من إيجابيّته النافعة. إلّا أنّ ذلك لن يمحو الفترة الماضية، وستبقى الخطوات الفرنسية محطّ مراقبة وتشاور ومحصورة وغير نهائية، ولن يُسمح لها في تخطّي مسوّدة البيان الخماسي الجامع.
رسالة لودريان فرنسيّة
تقرّ دول اللقاء الخماسي وأصدقاء لبنان بالدور الفرنسي المميّز في لبنان. تتمتّع بمساحة كبيرة من حرّية التعامل الاستنسابي مع الملفّ اللبناني. تنعم لناحية حراكيّتها بحيثيّة واسعة باعتراف جميع الدول. لا تعتبر الولايات المتحدة الأميركية الملفّ اللبناني أولوية. سلّمت في حلّ الأزمة اللبنانية بالرؤية السعودية. تعطي المملكة العربية السعودية الحراك الفرنسي مجالاً ووقتاً على الرغم من كلّ الانطباعات والتباينات وحتى الاختلافات السابقة. تنسّق السعودية مع فرنسا بشكل ثنائي في ما يتعلّق بالمساعدات، وعبر اللقاء الخماسي من أجل المساعدة في حلّ الاضطرابات، وخاصة بعد تسلّم الوزير لودريان بتكليف رئاسي زمام الإدارة الفرنسية للملفّ اللبناني.
وجّه المبعوث الرئاسي الخاصّ بروتوكولياً رسالة من الرئاسة الفرنسية إلى السلطة التشريعية في لبنان. لكنّه لم يقصد بها جميع النواب أو حتى الكتل. فقد استهدفت بالعمق مجموعة من المشرّعين الضبابيين وغير الواضحين
لم تُطرح مسألة الرسائل الدبلوماسية وإشكالية التواصل الكتابي في اللقاء الخماسي في الدوحة. تُعتبر فكرة فرنسية خالصة، لكنّها لا تخالف مقرّرات اللقاء القطري ولا تتجاوز بيانه الجامع. ويدخل هذا النشاط ضمن المساحة الهامشية المعطاة لباريس تمهيداً ومساعدةً لها في إنجاح مبادرتها في لبنان التي لا تتخطّى مسلّمات اللقاء الخماسي ولا نقاط وثوابت البيان الثلاثي. لذلك لم تصدر أيّ ملاحظة واعتراض “علني على الأقل” على هذه الخطوة من قبل دول خليّة الأزمة، ما دام الموضوع لم يتخطَّ الأولوية المباشرة، وهي المساعدة في الإنهاء السريع للشغور الرئاسي وفق ما تمّ الاتفاق عليه.
لودريان أمام امتحان
يحاول لودريان لملمة واستعادة الوهج الفرنسي عبر البيان الثلاثي. هو أمام امتحان لأنّه لا يستطيع المخالفة ولا المواربة ولا حتى الالتفاف وإلّا فسيكون الإحراج مصير فرنسا من جديد. لقد ورث لودريان عبء وثقل الاجتهاد الفرنسي الأخير، مع كلّ شوائبه ورواسب زبائنيّة ثلاثي الإليزيه (دوريل، بون، إيمييه). لذا حتى لو مشت فرنسا ولودريان على نفس أثير اللقاء الخماسي وعلى بياض، فإنّ المسعى الفرنسي متّهم دائماً من اللقاء الخماسي إلى أن يثبت سيره على الموجة نفسها حتى الوصول إلى حلّ للأزمة، ومن قبل أغلبية المكوّنات اللبنانية.
تشير معلومات فرنسية خاصّة جداً في أروقة “الكي دورسيه” الدبلوماسية إلى أنّ هناك مساعي دولية لإحراج المساعي الفرنسية الجديدة، وبالتحديد مساعٍ إيرانية تعمل على عرقلة أهداف اللقاء الخماسي في ردّة فعل عنيفة على تخلّيهم عن الحراك السابق ولمآرب خاصة لها طابعها النووي والماليّ والاقتصادي. هذا ما تجلّى أخيراً في لبنان من خلال تسليط الضوء على إشكاليات الحوار والتحاور والنقاش والتشاور، فيما لم يُطرح الحوار الكلاسيكي في اللقاء الخماسي، وكلّ ذلك لحرف النظر عن الاستحقاق الرئاسي وإضاعة المزيد من الوقت، فيما المجموعات السياسية في متاهة.
إقرأ أيضاً: 100 عام من فشل “لبنان الفرنسي”…
وجّه المبعوث الرئاسي الخاصّ بروتوكولياً رسالة من الرئاسة الفرنسية إلى السلطة التشريعية في لبنان. لكنّه لم يقصد بها جميع النواب أو حتى الكتل. فقد استهدفت بالعمق مجموعة من المشرّعين الضبابيين وغير الواضحين. وقصد برسائله الأطراف التي تخالف الإجماع في باطنها والتوافق والبيان الثلاثي، محاولاً تثبيت جواب واضح، ساعياً إلى إحراز خرق تحت سقف اللقاء القطري ومسلّماته، عنوانه جلسات انتخاب الرئيس المتتالية التي قد تكون بحضور ممثّلين عن دول اللقاء الخماسي. فهل يكون الشهر المقبل الموعد النهائي للإنتاج الرئاسي النافع؟ وهل تنتهي معه مرحلة ربط النزاع لتمرير الاستحقاق بالطريقة الفرنسية؟
لا تبدو الطرق مفتوحة إلى الآن…