يشكّل كيلومتر مربّع واحد من مدينة القدس المحور الذي يدور حوله علماء مسلمون ومسيحيون ويهود. ففي هذه المساحة الضيّقة من العالم الواسع يوجد الحرم الشريف وقبّة الصخرة ومسجد عمر وغيرها من المواقع الإسلامية. وتوجد فيها كنيسة المهد والقبر المقدّس ومقدّسات مسيحية عديدة أخرى. وفيها حائط البراق (حائط المبكى) الذي يزعم اليهود أنّه الأثر الوحيد الباقي من هيكل سليمان، وهو ادّعاء أسقطته اليونيسكو عندما قرّرت السيادة العربية عليه.
وفي التلّة المطلّة على المدينة يوجد قبر النبيّ داود، وموقع العشاء السرّي الأخير. وفي تلّة الزيتون توجد الجثمانية، وهو الموقع الذي بُعث فيه المسيح حيّاً وصعد إلى السماء. يوجد أيضاً قبرا مريم ويوسف والكنيسة التي تقوم عليهما.
من أجل ذلك يتمتّع هذا الكيلومتر المربّع الواحد بحضور ديني كثيف تشمل قوّته الروحية الرسالات الإبراهيمية الثلاث كلّها.
في حزيران من عام 1967 احتلّت إسرائيل مدينة القدس. كان على رأس القوات الإسرائيلية التي اقتحمت المدينة المقدّسة الجنرال موشي دايان. وكان يرافقه في دبّابة القيادة القسّ الإنجيليّ الأميركي بات روبرتسون
ما هي الصهيونية المسيحانية؟
هناك رسالة رابعة لحركة دينية أميركية تُعرف باسم “الصهيونية المسيحانية”.
تؤمن هذه الحركة بالعودة الثانية للمسيح، وبأنّ هذه العودة المنتظرة لن تكون إلا إلى صهيون، وأنّ المسيح العائد لن يعلن نفسه إلّا في الهيكل. لذلك فإنّ إقامة صهيون وتهويد القدس وبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى تشكّل التزاماً عَقَديّاً لا موقفاً سياسياً فقط.
تضمّ هذه الحركة الدينية 70 مليون عضو، منهم أعضاء في الكونغرس الأميركي وفي الجيش والإدارة وفي مؤسّسات المال والأعمال.
كان منهم الرئيس الأسبق رونالد ريغان، والمرشّح السابق للرئاسة الأميركية في عام 1980 القسّ بات روبرتسون. ومنهم أيضاً مارك بنس نائب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
تشرف هذه الحركة الدينية على عدد من الجامعات والكنائس الكبرى ودور النشر ومحطّات الإذاعة والتلفزة.
في حزيران من عام 1967 احتلّت إسرائيل مدينة القدس. كان على رأس القوات الإسرائيلية التي اقتحمت المدينة المقدّسة الجنرال موشي دايان. وكان يرافقه في دبّابة القيادة القسّ الإنجيليّ الأميركي بات روبرتسون.
في ذلك اليوم أعلن روبرتسون، وهو يتفرّج على تهديم حيّ المغاربة المجاور للمسجد الأقصى، أنّ المعجزة الثانية المتعلّقة بسيناريو العودة الثانية للمسيح قد تحقّقت، وأنّ علينا الآن العمل على تحقيق المعجزة الثالثة، وهي بناء الهيكل اليهودي على أنقاض المسجد الأقصى وفي موقعه. أمّا المعجزة الأولى فكانت قد تحقّقت بقيام إسرائيل في عام 1948.
في 21 تموز 1969 شبّ حريق في المسجد الأقصى. الذي ارتكب تلك الجريمة لم يكن إسرائيلياً، ولم يكن يهودياً. كان أستراليّاً من منظمة الصهيونية المسيحانية، ويدعى دنيس مايكل روهان.
في عام 1985 عُقد في مدينة بال بسويسرا في الفندق ذاته الذي عقدت فيه الحركة الصهيونية اليهودية مؤتمرها التأسيسي، وفي القاعة ذاتها، مؤتمر للصهيونية المسيحانية بدعوة من مدير المعهد الأميركي لدراسات الأرض المقدّسة في الولايات المتحدة دوغلاس يونغ. رأس المؤتمرَ القسُّ ديرهوفين، رئيس الكنيسة الإنجيلية الهولندية، وشاركت فيه 589 شخصية من 27 دولة.
انبثقت عن هذا المؤتمر منظمة جديدة تدعى “منظمة السفارة المسيحية الدولية من أجل القدس”. وحدّدت المنظمة لنفسها مهمّة وحيدة، وهي مساعدة إسرائيل سياسياً ومالياً وإعلامياً من أجل بسط سيطرتها على كلّ المدينة المقدّسة وتهويدها.
عندما بدأت إسرائيل بناء الجدار العنصري حول الضفّة الغربية وبناء المزيد من المستوطنات اليهودية فيها، قرّرت الجمعية العامّة للكنيسة المشيخية الأميركية، وهي من كبرى الكنائس الإنجيلية الأميركية، وتولّت إقامة الجامعة الأميركية في كلّ من بيروت والقاهرة وأنقرة
القدس: أبرز “انتصارات” المنظمة
بالفعل تمكّنت المنظّمة في عام 1990 من حمل الكونغرس الأميركي على إصدار قراره الشهير باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة الأميركية إليها. وهو القرار الذي نفّذه الرئيس السابق دونالد ترامب.
لم يكن تاريخ 6 كانون الأول 2017 لإعلان قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس اختياراً عشوائياً أو مصادفة، فاختيار هذا التاريخ بالذات كان إحياءً للذكرى المأساوية لاحتلال بريطانيا تحت قيادة الجنرال اللنبي المدينة المقدّسة وإعلانه الفجّ: “الآن انتهت الحروب الصليبية”. وكان ذلك في 6 كانون الأول 1917.
تلتقي تعاليم هذه المدرسة الدينية للصهيونية المسيحانية مع أهداف إسرائيل الدينية. فقد جعلت إسرائيل قاعدة وأساساً ما تسمّيه “تطهير” القدس من أهلها الفلسطينيين ومن تهويدها.
حتى إنّ ديفيد بن غوريون رئيس أوّل حكومة إسرائيلية قال: “لا إسرائيل من دون القدس. ولا قدس من دون الهيكل (هيكل سليمان)”. وهذا يعني أنّه بعد ضمّ القدس المحتلّة إلى بقيّة الأرض الفلسطينية المحتلّة التي تقوم عليها إسرائيل، فإنّ الخطوة الإسرائيلية التالية هي تهديم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل. وهو هدف تعمل عليه علناً الصهيونيّتان اليهودية والمسيحانية.
المسيحية بكنائسها الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية ترفض عَقَديّاً مقولات الحركة الصهيونية المسيحانية وتصفها بالهرطقة. وقد سبق لمجلس كنائس الشرق الأوسط أن أصدر مواقف رسمية رافضة لمقولاتها ومندّدة بها. وكذلك فعل الفاتيكان. حتى إنّ أحد قادة هذه الحركة جيري فولويل وصف البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني بأنّه “المسيح الدجّال”، وهو نفسه البابا الذي وافق رسمياً على بناء المسجد والمركز الثقافي الإسلامي في روما، والذي كرّسته كنيسته قدّيساً.
مواقف “الكنائس” منها
يمكن اختصار الموقف العَقَدي للكنيسة الكاثوليكية بالموقف المبدئي التالي:
في عام 1903 وجّه ثيودور هرتزل، مؤسّس الحركة الصهيونية، رسالة إلى بابا الفاتيكان بيوس العاشر طلب فيها دعمه تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين.
في 24 كانون الثاني 1904، ردّ البابا بما يلي:
“نحن لا نستطيع أبداً أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية. إنّنا لا نقدر أن نمنع اليهود من التوجّه إلى القدس، لكنّنا لا يمكن أبداً أن نقرّه. وبصفتي قيّماً على الكنيسة، لا أستطيع أن أجيبك بشكل آخر. لم يعترف اليهود بسيّدنا (المسيح)، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي، وبالتالي إذا جئتم إلى فلسطين، وإذا أقمتم هناك، فإنّنا سنكون مستعدّين كنائس ورهباناً أن نعمّدكم (أي نحوّلكم إلى المسيحية) جميعاً”.
أمّا الموقف العَقَدي للكنيسة الأرثوذكسية فيمكن اختصاره بالموقف التالي:
في مؤتمر القمّة الإسلامية الذي عُقد في مدينة لاهور – باكستان في عام 1974، والذي خُصّص لقضية القدس، شارك للمرّة الأولى البطريرك الأرثوذكسي الأنطاكي الياس الرابع. يومها عارض الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور حسن التهامي مشاركة البطريرك حتى لا يبدو أنّه المؤيّد الوحيد للقمّة الإسلامية. ولذلك قال البطريرك للقادة المسلمين: “أنا لم أحضر لأؤيّدكم في قضية القدس، أنا أعتبر المؤتمر كلّه مؤيّداً لنا نحن المسيحيين في قضية القدس”. وبهذا الموقف اعتلى البطريرك منبر القمّة، وأصبحت تقليداً دعوة البطريرك الأرثوذكسي للمشاركة في القمم الإسلامية. وبالمناسبة، عُيّن الدكتور التهامي فيما بعد وزير دولة في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، وكُلّف بإعداد برنامج زيارته التاريخية للقدس المحتلّة، ثمّ رافقه في الزيارة.
أمّا الموقف العَقَدي للكنائس الإنجيلية، فمن المهمّ الإشارة إلى وثيقة “كايروس” أو “وقفة حقّ” التي صدرت منذ سنوات قليلة عن الكنائس الإنجيلية والأرثوذكسية والكاثوليكية العربية في القدس والتي تقوم على مبدأ اعتبار الاحتلال الإسرائيلي مناقضاً للعقيدة المسيحية.
إقرأ أيضاً: تل أبيب 2030.. تقسيم إسرائيل
عندما بدأت إسرائيل بناء الجدار العنصري حول الضفّة الغربية وبناء المزيد من المستوطنات اليهودية فيها، قرّرت الجمعية العامّة للكنيسة المشيخية الأميركية، وهي من كبرى الكنائس الإنجيلية الأميركية، وتولّت إقامة الجامعة الأميركية في كلّ من بيروت والقاهرة وأنقرة، سحب استثماراتها وودائعها المالية التي تقدّر بمليارات الدولارات من إسرائيل، احتجاجاً على انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني. وتعرّضت الكنيسة بسبب ذلك لحملة تشهير واسعة ولمضايقات شديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها بسبب هذا الموقف الديني – الأخلاقي الذي تتمسّك به حتى اليوم.
من هنا ليس مستغرباً ولا جديداً ما يجري في القدس الآن. فمؤامرة التهويد مستمرّة، وكذلك التصدّي للمؤامرة ومواجهتها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.