أعلن الرئيس بايدن خلال قمّة الديمقراطية الثانية الافتراضية التي عُقدت في 29 آذار 2023 عبر الفيديو من واشنطن، وشارك فيها 121 زعيماً، أنّ “الديمقراطية تتطلّب جهداً كبيراً، والمهمّة لا تنتهي أبداً. وهذا هو التحدّي الحاسم لعصرنا”، وكأنّه يعلن أنّ القمّة الأولى التي عُقدت برئاسته في 2021 ليست إلا مجرّد بداية في رحلة تعزيز الديمقراطية التي تحتاج دائماً إلى تطوير مستمرّ.
دعم وسائل الإعلام
أغدق بايدن في هذا المؤتمر مبلغاً قيمته 690 مليون دولار، معزَّزاً بوعد منه بمحاولة إقناع الكونغرس بتخصيص حوالي 9 مليارات دولار لصرفها على برامج تدعم وسائل إعلام حرّة ومستقلّة، ومكافحة الفساد، وتعزيز حقوق الإنسان، وتطوير تكنولوجيا تعكف على تحسين الديمقراطية، ودعم الانتخابات الحرّة والنزيهة في العالم.
لكنّ هذا الكلام لا يترافق في غالب الأحيان مع التطبيق. ففي حين يتوقّف تحقيق الوصول إلى الديمقراطيات على الشعوب أولاً، وعلى الدول العظمى ثانياً، إلا أنّ هذه الأخيرة غالباً ما تردّدت في دعم الشعوب المتوثّبة حيثما يجب، وفضّلت أولويّاتها الاقتصادية ومصالحها على تعزيز الانتقال إلى الديمقراطية.
أعلن الرئيس بايدن خلال قمّة الديمقراطية الثانية الافتراضية التي عُقدت في 29 آذار 2023 عبر الفيديو من واشنطن، وشارك فيها 121 زعيماً، أنّ “الديمقراطية تتطلّب جهداً كبيراً، والمهمّة لا تنتهي أبداً
البلياردو بين بيروت وواشنطن
في لبنان حيث تعتمد الجمهورية فصل السلطات، جرى أن طغت فيها السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية. وتغوّلت السلطتان التشريعية والتنفيذية معاً على السلطة القضائية، وجعلتاها سلطة تابعة لهما. لا بل تُغلَق أيّ سلطة من السلطات الثلاث وفقاً لإرادة فردية يمارسها رئيس المجلس أو رئيس الحكومة أو أيّ وزير استطاع تطيير نصاب مجلس الوزراء. بنفس الطريقة، تتعطّل أعمال السلطة القضائية إمّا بشلل المحاكم أو بتطيير نصاب اجتماعات مجلس القضاء الأعلى أو بالحدّ من قدرة النيابات العامّة والقضاة على العمل.
على ذات المنوال، في الدولة العريقة ديمقراطياً، يستطيع رئيس مجلس النواب الأميركي كيفن مكارثي استدعاء النائب العام الذي يحقّق مع الرئيس السابق ترامب في أصل أموال سدّدها لممثّلة إباحية، بهدف ممارسة الضغط لوقف التحقيق.
في بيروت يقفل مجلس النواب ولا ينتخب رئيساً للجمهورية ولا يدعو إلى جلسات مستمرّة مفتوحة لانتخاب رئيس، بينما في واشنطن يتمّ الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني 2021 لتعطيل نتائج انتخاب بايدن في انتهاك صارخ للديمقراطية ولمبدأ التداول السلمي للسلطة.
في لبنان يتمّ التصويت إمّا بالمناداة وإمّا بالصندوق أو لا يتمّ نهائياً بنتيجة عدٍّ مغلوط للنصاب. في حين أنّ واشنطن الرائدة في التكنولوجيا والمتقدّمة في احترام القانون، تعلن أنّها توصّلت إلى كيفية استخدام “تكنولوجيا المراقبة” لتعزيز الديمقراطية، بعدما كان التصويت بواسطة البريد مدار جدل عميق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لكن هل إيجاد الحلول التكنولوجية المتأخّرة بعد العصف الهائل بالحياة اليومية للأميركيين، جعل التكنولوجيا تعمل لأجل الديمقراطية أم ضدّها؟ ألا يشبه استخدام الحكومة الأميركية لأدوات التجسّس لمراقبة نشطاء حقوق الإنسان والصحافيين والمعارضين في جميع أنحاء العالم (قبل أن يوقّع بايدن أخيراً على أمر تنفيذي يقيّد ذلك) تجسّس أحزاب “الممانعة” في لبنان على المعارضة الداخلية أو حتى على العناصر الحزبية (داخل حزب الله) المشكوك في ولائها لقيادته أو لإيران؟
في لبنان حيث تعتمد الجمهورية فصل السلطات، جرى أن طغت فيها السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية. وتغوّلت السلطتان التشريعية والتنفيذية معاً على السلطة القضائية، وجعلتاها سلطة تابعة لهما
يتنازع أهل السلطة في لبنان على الحصص والمغانم نتيجة المحسوبية والزبائنية السياسية. فالخلاف على أبسط الأمور يشلّ عمل الإدارة وتتخبّط المؤسّسات حتى تتمّ التسويات على طريقة “مرّقلي حتى مرّقلك”. تتعطّل الترقيات العسكرية والأمنيّة ربطاً بنيل الفرقاء غاياتهم في المواقع أو في مناصب أخرى مختلفة. وفي واشنطن، حذّر وزير الدفاع لويد أوستن من أنّ تأخير مجلس الشيوخ إقرار 160 ترقية عسكرية روتينية بسبب معارضة أحد أعضائه (السيناتور الجمهوري تومي توبرفيل) لسياسة البنتاغون الداعمة للإجهاض. تمّ بتهوّر ربط وعرقلة ترقيات وزارة الدفاع بعودة هذه الأخيرة عن دعمها لإجهاض العسكريّات.
لعبة البيلياردو متشابهة بين بيروت وواشنطن على الرغم من فارق الجغرافيا والتوقيتين (الشتوي والصيفي). هنا في لبنان الترقية من عقيد إلى عميد مرتبطة بالكيدية بين برّي وباسيل، وفي واشنطن ترتبط الترقيات بالصراع بين مؤيّد ديمقراطي للإجهاض ومعارض جمهوري له.
الديمقراطية ليست أبدية
من جانبه، في قمّة الديمقراطية الثانية المشار إليها في بداية المقال، قال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته: “لا نستطيع أن نفترض أنّ الديمقراطية والحرّية والأمن معطيات أبدية”. يصحّ قوله مثلاً على إسرائيل التي كانت واشنطن تعتبرها “واحة ومنارة للديمقراطية في الشرق الأوسط”. فعلى الرغم ممّا حدث من محاولات نتانياهو لتقويض سلطة القضاء وانتهاك مبدأ فصل السلطات، لم تمتنع واشنطن عن دعوة الحكومة الإسرائيلية إلى حضور المؤتمر المذكور مع أنّ “ديمقراطيتها ليست أبدية”، في حين رفضت حضور تركيا والمجر، البلدين الحليفين لها في الناتو، بحجّة “حقوق الإنسان”.
تغضّ واشنطن الطرف عن الطبقة السياسية اللبنانية التي أفقرت ملايين المواطنين اللبنانيين واستولت على مدّخراتهم وودائعهم وأمعنت في انتهاك حقوق الإنسان من دون أن يوسّع الأميركيون عقوباتهم على أفراد هذه الطبقة الفاسدة تعزيزاً للديمقراطية.
إقرأ أيضاً: الولايات المتّحدة: رغبات الهيمنة ودروس الحروب!
فكما يعامل لبنان مواطنيه باستنسابية، كذلك تتعامل واشنطن مع دول العالم، فحيناً تفرض عقوباتها لتعزيز الديمقراطية وأحياناً “لا تندهوا، فأميركا خارج السمع”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@