حان وقت التخلّي عن “حل الدولتين”. فالإسرائيليون والفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزَّة يعيشون في ظل واقع “الدولة الواحدة”: دولة إسرائيل اليهودية العظمى بين البحر المتوسط ونهر الأردن. ويتكرس فيها قانون السيادة اليهودية على جميع الفلسطينيين، فتتحكّم بدخولهم وخروجهم وتفرض قراراتها وسياساتها عليهم من دون موافقتهم.
هي دولة واحدة، وليست حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة إلا أحد أعراضها. وتتحمل الولايات المتحدة الاميركية مسؤولية اساسية في ترسيخ هذا الوضع بقيادتها “سراب” اتفاقيات ابراهام التي فصلت بين التطبيع العربي مع اسرائيل وبين القضية الفلسطينية. وحان وقت توقفها عن قيادة جهود التطبيع، وعن أن تكون جزءا من المشكلة، لتصير جزءًا من الحل.. وإلا فاننا امام انتفاضة ثالثة حتمية.
سجن قانوني
هذه خلاصة موجزة جداً لمقالة طويلة كتبها في مجلة “فورين افيرز” اربعة اكاديميين اميركيين بارزين عملوا معاً على تحرير كتاب “واقع الدولة الواحدة: ما هي إسرائيل/ فلسطين؟”.
في مقالتهم اعتبر الباحثون الأربعة – مايكل بارنيت، ناتان براون، مارك لينش، وشبلي تلحمي (الفلسطيني الأصل) – أنه لم يعد من الممكن تجنب مواجهة واقع الدولة الواحدة. فعودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل مع ائتلاف ضيق من اليمين المتطرف، اطاح وهم حل الدولتين، ورسخ ماهية إسرائيل وما يجب أن تكون عليه في جميع الأراضي التي تسيطر عليها: إسرائيل عظمى، ليست دولة يهودية فحسب، بل أيضاً دولة تكرس قانون السيادة اليهودية على جميع الفلسطينيين الذين مكثوا فيها.
في رأي الباحثين شتت مصطلح “عملية السلام” الانتباه عن حقائق واقع الدولة الواحدة على الأرض، وقدم ذريعة لعدم الاعتراف بها
وفقاً للباحثين: “لم تؤسس حكومة إسرائيل المتطرفة الجديدة هذا الواقع، لكنها أظهرت استحالة إنكاره. وحان وقت التعامل مع ما يعنيه هذا الواقع سياسيا وللساسة والمحللين: فلسطين ليست دولة منتظرة، وإسرائيل ليست دولة ديمقراطية تحتل بالصدفة الأراضي الفلسطينية. ولطالما كانت جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن دولة واحدة تحت الحكم الإسرائيلي، حيث يعامل الفلسطينيون دائما كطبقة أدنى”.
واشاروا الى تداعيات تكرس هذا الواقع: ازدياد حدة العنف ومصادرة الاراضي وانتهاكات حقوق الإنسان، وتصاعد خطر المواجهة العنيفة على نطاق واسع مع كل يوم يسجن الفلسطينيون في هذا النظام من الاضطهاد القانوني والتعدي الإسرائيلي المتزايد عليهم باستمرار.
وحذروا من عاصفة تختمر في إسرائيل وفلسطين، تتطلب استجابة عاجلة من الدولة التي فضلت دولة واحدة تدافع عن السيادة اليهودية. وإذا أرادت الولايات المتحدة تجنب عدم الاستقرار الشديد في الشرق الأوسط والتشكيك في أجندتها العالمية، فعليها التوقف عن إعفاء إسرائيل من معايير وهياكل النظام الدولي الليبرالي الذي تأمل واشنطن في قيادته.
الدولة الواحدة القائمة
الدولة الواحدة ليست احتمالاً مستقبلياً، بل هي قائمة فعلاً – أكّد الباحثون – فبين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن تتحكم دولة واحدة في دخول الناس والبضائع وخروجهم. وهي تشرف على الأمن ولديها القدرة على فرض قراراتها وقوانينها وسياساتها على ملايين الأشخاص بلا موافقتهم. واضطرت إسرائيل إلى الاختيار بين الهوية اليهودية والديمقراطية الليبرالية، فاختارت الأولى وحبست نفسها في نظام السيادة اليهودية، حيث التمييز ضد غير اليهود واستبعادهم هيكليًا وفقًا لمخطط متعدد المستويات.
في رأي الباحثين شتت مصطلح “عملية السلام” الانتباه عن حقائق واقع الدولة الواحدة على الأرض، وقدم ذريعة لعدم الاعتراف بها. فالانتفاضة الثانية وتدخلات إسرائيل في الضفة الغربية أدتا إلى الوضع التالي:
– تحويل السلطة الفلسطينية مقاولا أمنيا ثانويا لإسرائيل.
– تسريع انجراف السياسة الإسرائيلية إلى اليمين.
– تشريد الفلسطينيين واستيطان الإسرائيليين مكانهم في الضفة الغربية.
– تشرذم المجتمع الفلسطيني جغرافيا.
هذه التغييرات كان لها الأثر التراكمي الواضح في أزمة 2021 مع الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية، حيث وضعت المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين في مواجهة عنيفة. ووضعت المواطنين اليهود والفلسطينيين في إسرائيل في صراع أدى إلى تقسيم المدن والأحياء. وجاءت حكومة نتنياهو الجديدة لتجسد هذه الاتجاهات وبمهمة رئيسية: إنشاء إسرائيل جديدة أقل ليبرالية وأكثر دينية واستعداداً للتمييز ضد غير اليهود.
يعتقد الباحثون أن حقيقة واقع الدولة الواحدة لطالما كانت واضحة للذين يعيشون في إسرائيل وفي الأراضي التي تسيطر عليها، ولأي شخص تابع التحولات الحتمية للوضع على الأرض. لرؤية هذه الحقيقة يتعين على المراقبين الفصل بين مفاهيم: الدولة، السيادة، الأمة، والمواطنة. والنظر إلى إسرائيل كدولة تسيطر على أراض تمتد من النهر إلى البحر، وتحتكر استخدام القوة حفاظا على حصار شديد القسوة لغزة والسيطرة على الضفة الغربية من خلال نظام نقاط التفتيش وخدمات الشرطة والمستوطنات الآخذة في التوسع.
واضاف الباحثون: كان يمكن تجاهل هذا الواقع، لأن إسرائيل لم تطالب رسمياً بسيادتها على جميع هذه المناطق. لكن السيطرة على الأراضي وتعزيز الهيمنة المؤسسية من دون إضفاء الطابع الرسمي على السيادة، مكّنا إسرائيل من الحفاظ على واقع الدولة الواحدة وفقاً لشروطها. وكذلك مكّنها من انكارها المسؤولية عن معظم حقوق الفلسطينيين لأنهم يقيمون على أراضيها لكنهم ليسوا من مواطني الدولة.
هذا يبرّر بشكل ساخر التمييز لأنه يبقي إمكان حل الدولتين على قيد الحياة. ومن خلال عدم إضفاء الطابع الرسمي على سيادتها، يمكن لإسرائيل أن تكون ديمقراطية بالنسبة لمواطنيها، لكنها غير مسؤولة أمام الملايين من سكانها. وقد سمح هذا الترتيب للعديد من مؤيدي إسرائيل في الخارج بالاستمرار في الادعاء بأن كل هذا موقت، وأن إسرائيل تظل ديمقراطية ليبرالية، وأن الفلسطينيين سيمارسون يوماً ما حقهم في تقرير المصير.
انتفاضة ثالثة وشبح الربيع العربي
يستند القادة الإسرائيليون إلى اتفاقيات إبراهام، للقول – حسب الباحثين – إن التطبيع مع الدول العربية لم يتطلب أبداً حلاً للقضية الفلسطينية. وللقادة الغربيين الاستمرار في الادعاء بأن إسرائيل تشاركهم قيمهم الديمقراطية الليبرالية، بينما تضاعف جماعات تؤيد إسرائيل في الولايات المتحدة جهودها لدعمهم. ويمكن لليهود الأميركيين الليبراليين الاحتجاج على إسرائيل التي تسود فيها خصائص فصل عنصري. لكن احتجاجاتهم لن يكون لها تأثير ملموس يذكر.
حذر الباحثون من أن “في الافق شيئاً ما أقرب إلى الانتفاضة الأولى والثانية. بل إن أعمال العنف اليومية والانتفاضات الشعبية المتقطعة – وربما الانتفاضة الثالثة – تبدو حتمية. فجماهير الطرفين منقسمة بشدة. والخلافات الداخلية أزالت الأسئلة حول عملية السلام التي لم تعد موجودة. وقادة الجانبين لا يملكون زمام للقيادة”. لذا رجح الباحثون أن “تفشل أي دبلوماسية باسم حل النزاع بطريقة عادلة، لأنها أخطأت في فهم البدائل الممكنة للمأزق الحالي. والاعتراف بواقع الدولة الواحدة له تداعيات مهمة ومتناقضة على العالم العربي. ولطالما افترضت حجة حل الدولتين أهمية القضية الفلسطينية للجمهور العربي، إن لم يكن للحكومات. واتفاقات إبراهام استهدفت هذا الافتراض صراحةً بتسريع التطبيع السياسي والتعاون الأمني بين إسرائيل ودول عربية من دون الحاجة إلى إحراز تقدم في حل القضية الفلسطينية. وساهم هذا الفصل بين التطبيع العربي والقضية الفلسطينية في ترسيخ واقع الدولة الواحدة”.
مسؤولية الولايات المتحدة
حمل الباحثون الولايات المتحدة مسؤولية كبيرة في ترسيخ واقع الدولة الواحدة. فبناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ما كان ليستمر ويتسارع، والاحتلال ما كان ليصمد، لولا الجهود الأميركية في حماية إسرائيل من تداعيات ذلك في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. ولولا التكنولوجيا والأسلحة الأميركية ربما لم تكن إسرائيل قادرة على الحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة وترسيخ موقعها في الأراضي المحتلة. ولولا جهود وموارد الدبلوماسية الأميركية، لما تمكنت إسرائيل من إبرام اتفاقيات سلام مع الدول العربية، من كامب ديفيد إلى اتفاقيات أبراهام.
وأضاف الباحثون أن تدليل واشنطن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، في محاولة لإقناعها بالاعتدال لن يؤدي إلا إلى تشجيع قادتها المتطرفين الذين لا يدفعون ثمن أفعالهم.
يعتقد الباحثون أن حقيقة واقع الدولة الواحدة لطالما كانت واضحة للذين يعيشون في إسرائيل وفي الأراضي التي تسيطر عليها، ولأي شخص تابع التحولات الحتمية للوضع على الأرض
لكن يمكن الولايات المتحدة الرد على هذا الواقع المتطرف برد جذري:
– حذف مصطلحي “حل الدولتين” و”عملية السلام” من مفرداتها.
– النظر إلى إسرائيل كما هي وليس كما يفترض أن تكون، وأن تتصرف وفقًا لذلك. فإسرائيل لم تعد تدعي أن لديها تطلعات ليبرالية.
– لا ينبغي أن تكون للولايات المتحدة روابط غير قابلة للكسر مع دولة تمارس التمييز ضد الملايين من سكانها أو تسيء إليهم على أساس عرقهم ودينهم.
– الدفاع عن المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان لجميع اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون في دولة واحدة تهيمن عليها إسرائيل.
– اشتراط المساعدة العسكرية والاقتصادية لإسرائيل بإجراءات واضحة ومحددة لإنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين.
– شجب انتهاك إسرائيل القوانين الدولية والاعراف الليبرالية كما تفعل واشنطن مع أي دولة أخرى. والتوقف عن حمايتها في المنظمات الدولية عندما تواجه مزاعم صحيحة بانتهاكات القانون الدولي.
– الامتناع عن استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن الدولي التي تطالب بمحاسبة إسرائيل، والتوقف عن مقاومة الجهود الفلسطينية للسعي إلى الإنصاف في المحاكم الدولية، وحشد الدول الأخرى للمطالبة بإنهاء الحصار المفروض على غزة.
– الدفاع عن المنظمات غير الحكومية الدولية والإسرائيلية والفلسطينية، ومنظمات حقوق الإنسان، والنشطاء الأفراد الذين شوهن سمعتهم بسبب دعوتهم الشجاعة إلى شجب الظلم البنيوي.
– حماية منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية التي تعتبر الملاذ الأخير للقيم الليبرالية في البلاد، وكذلك المنظمات الفلسطينية التي ستكون جهودها حاسمة لتجنب الصراع الدموي في الأشهر المقبلة.
– معارضة الاعتقالات الإسرائيلية للقادة الفلسطينيين الذين يقدمون رؤية غير عنيفة للمقاومة الشعبية. وعدم وقف أو معاقبة أولئك الذين يختارون المقاطعة السلمية لإسرائيل بسبب سياساتها التعسفية.
– التوقف عن قيادة جهود التطبيع العربي. فلا ينبغي أن ينخدع أحد بسراب اتفاقات إبراهام المزدهرة بينما تتفاقم القضية الفلسطينية. ففصل اتفاقيات التطبيع عن معاملة إسرائيل للفلسطينيين أدى إلى تقوية اليمين الإسرائيلي المتطرف وترسيخ السيادة اليهودية داخل الدولة.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تغيّرت.. كذلك نتنياهو
يعتقد الباحثون ان مثل هذه التغييرات قد لا تؤتي ثمارها فورا، لكنها توفر أفضل أمل للتحرك نحو نتيجة أكثر سلامًا وعدالة في إسرائيل وفلسطين. فمن خلال مواجهة واقع الدولة الواحدة واتخاذ موقف مبدئي منها، تتوقف الولايات المتحدة عن كونها جزءًا من المشكلة وتبدأ تصير جزءًا من الحل.
*مايكل بارنيت أستاذ جامعي للشؤون الدولية والعلوم السياسية في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن.
*ناثان جيه براون أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن وزميل أول غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
*مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن.
*شبلي تلحمي أستاذ أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة ميريلاند وزميل أول غير مقيم في معهد بروكينغز. وقد شغل سابقًا منصب مستشار بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ومجموعة دراسة العراق.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا