جمعيّات المودعين: أجندات سرّيّة.. تتآمر على الودائع

مدة القراءة 4 د

إن سألت أحد المارّة في الشارع: “ما هو سبب تعثّر الدولة؟”، فسيجيبك فوراً وبلا تردّد: “الفساد والمحسوبيّات المستشريان فيها”. أمّا إذا سألت الشخص نفسه، وحتى لو لم يكن صاحب خلفيّة اقتصادية أو شخصية متابعة لِما يدور في كواليس الأزمة: “ما سبب ارتفاع سعر صرف الدولار؟”، فحتماً سيكون جوابه: “مضاربة مصرف لبنان من أجل تأمين التزامات الدولة ورواتب موظّفي القطاع العامّ”.

باتت هذه الإجابات من بديهيّات الأزمة الاقتصادية اللبنانية، التي دفعت بجميع المواطنين اللبنانيين إلى متابعة كلّ شأن اقتصادي في البلاد، صغيراً كان أم كبيراً، وما عادت بحاجة إلى خبراء أو مفكّرين لمعرفتها. لكنّ هذه البديهيّات، وعن قصد على الأرجح، تتجاهلها الجمعيّات التي فرّخت مثل الفطر على هامش الأزمة، تحت عنوان “حماية أموال المودعين” في المصارف.

إن سألت أحد المارّة في الشارع: “ما هو سبب تعثّر الدولة؟”، فسيجيبك فوراً وبلا تردّد: “الفساد والمحسوبيّات المستشريان فيها”

علاقة “الجمعيّات” بـ”القطاع العامّ”

بعدما أقرّت حكومة تصريف الأعمال قبل نحو أسبوع زيادة رواتب القطاع العامّ، اتّخذت تلك الجمعيّات وضعية “إعمل نفسك ميّتاً”. مراقبة حسابات أهمّ ثلاث جمعيات تُعنى بالمودعين على مواقع التواصل الاجتماعي (رابطة المودعين، صرخة المودعين، جمعية المودعين اللبنانيين) تبيّن أنّها لم تحرّك ساكناً. واحدة من الجمعيات المذكورة لم تأتِ بكلمة واحدة في تغريدة تخصّ زيادة الرواتب، أو الأسلوب الهجين الذي تعتمده السلطة من أجل كسب ودّ “ماكيناتها الانتخابية” وولائها.

قد يسأل سائل: ألا يستحقّ هؤلاء الموظّفين زيادات بعد كلّ هذه الانهيارات التي طالت رواتبهم نتيجة ارتفاع سعر الصرف؟ الجواب البديهي على هذا السؤال: طبعاً يستحقّون. لكن ليس كلّهم، وإنّما يستحقّها من يستأهل أن يبقى موظّفاً في الإدارة بعد ترشيقها وتنظيفها من المحسوبيات والمحاصصات. لكنّ تلك الجمعيات لا ترى ذلك ولا تجرؤ على المطالبة به.

لم تنتفض تلك الجمعيات لـ”شرف الودائع” المحتجزة في المصارف. بل أكثر من ذلك، دعت واحدة من تلك الجمعيات (جمعية المودعين اللبنانيين) المودعين إلى التظاهر أمام السراي الحكومي، تزامناً مع انعقاد الجلسة، وكأنّها تقودهم إلى نحرهم من دون أن توضح ما هي موجبات التظاهر أو ما هي المنفعة من تظاهرة كهذه.

 

في الخندق نفسه

شاءت الصدف أن تكون تلك التظاهرة متزامنة مع أخرى لموظّفي القطاع العامّ المطالبين بالزيادات (يا سبحان الله)، وهو ما أعطى انطباعاً بأنّ الجمعية المغمورة تدعو المودعين إلى الوقوف في صفّ موظّفي القطاع العامّ في مطالبتهم بزيادة الرواتب.

أقرّت الحكومة زيادةً بلغت 4 رواتب لموظّفي الملاك، و3 رواتب للعسكرين والمتقاعدين والمتعاقدين وغيرهم. وهذا يعني في ما يعنيه، انطلاقاً من البديهيّات أعلاه، أنّ مصرف لبنان سيتحمّل مسؤولية تلك الزيادات باعتبار أنّ إيرادات الدولة اليوم شبه معدومة، وهذا ليس خافياً على أحد في لبنان.

مصرف لبنان سيدفع تلك الرواتب بطريقة من اثنتين:

1- استنزاف التوظيفات الإلزامية، أي استنزاف ما بقي من أموال المودعين.

2- شفط الدولارات من السوق، أي دولارات المواطنين، وهو ما سيتسبّب حتماً بمزيد من الانهيارات بسعر الليرة، أي بمزيد من الانهيار لقيمة الودائع المحتجزة وبالقدرة الشرائية لكلّ اللبنانيين.

إقرأ أيضاً: زيادة الرواتب: ارتفاع بالدولار أو انخفاض باحتياطات “المركزي”

لم تقف الجمعيات عند هذا التفصيل “السخيف”، وواصلت حديثها عن “شبهات” تحوم حول تحويل أموال من هنا أو دعوى قضائية من هناك، كأنّ الأمر لا يعنيها على الإطلاق. وهذا إن دلّ على شيء، فيدلّ على أنّ هذه الجمعيات “مشبوهة” ولا تمثّل المودعين الحقيقيين ومصالحهم، بل تنفّذ أجندات مستترة تدعوها إلى التظاهر حيناً، وتأمرها بالانكفاء حيناً آخر، بحسب مقتضيات المرحلة. أمّا المودعون وأموالهم فهم مطيّة. باختصار: هي قضيّة حقّ يُراد بها باطل… وهذا لم يعد خافياً على أحد.

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…