“الحالة الاختبارية” السوريّة القائمة منذ التطبيع العربي مع دمشق، مقبلة على امتحان جديد في إطار العلاقات السورية التركية بعد انتهاء الانتخابات التركية ذات الانعكاسات المتشعّبة، إن داخلياً أو عربياً أو روسيّاً أو أميركياً.
قُضي الأمر وفاز رجب طيب إردوغان بالرئاسة من دون منّة دمشق بقبول التطبيع معه، بعدما كانت عاندت طلب موسكو منها تتويج اللقاءات السورية التركية برعاية روسيّة.
حسابات الأسد وحسابات بوتين التركيّة
فيما لم تكن القيادة الروسية تخفي أنّها أرادت إنجاز التطبيع السوري التركي قبل الانتخابات، من أجل توظيفها لمصلحة إردوغان في مواجهة كمال كليتشدار أوغلو، كان الأسد يقول منذ زيارته موسكو في 15 آذار الماضي، ويردّد من ورائه محيطه في تصريحات علنيّة (بثينة شعبان مثلاً): لن نقدّم اللقاء مع إردوغان هديّة كي ينجح في الانتخابات. بل إنّ القيادة السورية كانت تراهن على سقوط إردوغان نظراً إلى أنّ خصومه وقفوا ضدّ تورّطه في الحرب السورية وعارضوا انحيازه للمعارضة السورية ضدّ الأسد.
لكنّ الكرملين كان يقيس تجديد رئاسة إردوغان من زاوية صراعه مع أميركا والغرب بفعل الحرب في أوكرانيا، كما هي الحال في ميادين الانقسام الدولي كافّة. وهذا ما لم يأخذه الأسد في الاعتبار في معاندته الرغبة الروسية الحاسمة التي ترتكز على ارتياح فلاديمير بوتين للتموضع الذي اختاره الرئيس التركي في الحرب الأوكرانية، والمفيد للرئيس الروسي في مجالات عدّة أهمّها:
بعد انتهاء الانتخابات التركية يُنتظر أن تتريّث موسكو بضعة أسابيع قبل أن تدعو إلى قمّة رباعية تجمع الأسد وإردوغان ورئيسي مع بوتين
قرب المعارضة من الغرب
– رفضت أنقرة الانحياز إلى الغرب في تلك الحرب، على الرغم من عضويّتها في الحلف الأطلسي، وتموضعت في موقف وسطيّ منذ 26 شباط 2022، تاريخ بدء “العملية العسكرية الخاصة” التي شنّتها موسكو. بل إنّ إردوغان وضع العراقيل في وجه انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”. وعلى الرغم من موافقته لاحقاً على عضوية فنلندا، بقي طلب السويد معلّقاً نتيجة الاعتراض التركي.
– اختارت أنقرة أن تكون الدولة الأهمّ التي تعتمد عليها روسيا في الالتفاف على العقوبات الغربية، من خلال نقل وتوزيع البضائع، بدءاً من النفط إلى سائر منتجات التجارة الروسية مع دول العالم، فضلاً عن دورها في اتفاقات تجارة القمح والحبوب الأوكرانية عبر البحر الأحمر ومضيق البوسفور الحيويّ لروسيا.
– إنّ نجاح المعارضة التركيّة في الاستفتاء الشعبي كان سينقل تركيا إلى موقع الانحياز لأميركا والغرب، وهو أمر لا تقتصر أضراره على روسيا، بل تشمل سوريا أيضاً. فمعارضو إردوغان يؤيّدون مسايرة واشنطن في التشدّد في العقوبات على أنقرة ودمشق بشار الأسد، على الرغم من أنّهم يأخذون على إردوغان ذهابه بعيداً في معاداة النظام. وهي حجّة استخدمتها موسكو مع الأسد في الضغوط التي مارستها عليه للمضيّ في التطبيع السوري التركي، من دون طرح شروط. ولذلك يُعتبر فوز إردوغان مكسباً لبوتين.
مصالحة الأسد وإردوغان حيويّة لموسكو
تجاوزت موسكو هجوم الأسد على تركيا في خطابه في القمّة العربية في الـ19 من الجاري حين تحدّث عن “خطر الفكر العثماني التوسّعي المطعّم بنكهة إخوانيّة منحرفة”، (مثلما تجاوزت حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي)، لقناعتها بأنّ التصريحات التصعيدية حيال تركيا، التي يدلي بها الرئيس السوري منذ أواخر العام الماضي، بعكس مبادرتها لتحقيق المصالحة بين الجانبين، ليست إلا للاستهلاك السياسي الداخلي.
وكانت موسكو أطلقت مبادرة المصالحة بعدما أقنعت الرئيس التركي بالعدول عن العملية العسكرية التي كان يتهيّأ لتنفيذها الخريف الماضي في شمال سوريا بهدف مزدوج: إبعاد ميليشيات “حزب الاتحاد الكردستاني”، الذي يعتبره موازياً لـ”حزب العمّال الكردستاني” التركي المصنّف إرهابياً، عن الحدود بعمق 30 كيلومتراً، وإعادة مليون نازح سوري موجودين في بلاده إلى المناطق التي ينوي احتلالها شمال سوريا، بعدما شكّل النازحون السوريون مادّة لحملات على تساهل حزب “العدالة والتنمية” مع وجودهم. فما تعمل له موسكو هو تجنّب المزيد من المواجهات العسكرية في سوريا التي تلهيها عن متطلّبات الحرب في أوكرانيا، أو تتسبّب في الإخلال بالتوازن الذي أرسته مع تركيا وإيران لوجود الدول الثلاث على الأرض السورية منذ تأسّست صيغة أستانا عام 2017. أغرت موسكو إردوغان بضمان وضع ترتيبات عسكرية تبعد الميليشيات الكردية عن الحدود تشارك فيها قوّاتها والقوات النظامية السورية. بهذا المعنى شكّل تجنّب العملية العسكرية التركية هدفاً حيويّاً للكرملين يسمو على معاندة الأسد. أمّا تركيا فشكّل تجنّب العملية العسكرية بالتوافق مع موسكو حافزاً لها على تخفيف عبء النازحين، وعلى دخول الشركات التركية في عملية إعادة إعمار البنية التحتية في الشمال السوري تحريكاً للاستثمارات لمصلحة الاقتصاد التركي.
معالجة معاندة دمشق بـ”الأوامر”
شهدت الأشهر الماضية تقدّماً تدريجياً في لقاءات التطبيع التركي السوري على قاعدة مواجهة المعاندة الأسديّة بما يسمّيه المتّصلون بموسكو “الأوامر الحاسمة” للكرملين والخارجية الروسية لنظام الأسد:
1- أصرّ النظام السوري على اقتصار التواصل مع أنقرة على مديري أجهزة المخابرات برعاية روسية، وعدم رفع مستوى اللقاءات إلا بعد الانسحاب التركي من الأراضي السورية، لكنّه قبِل فيما بعد باجتماع وزراء الدفاع التركي والسوري والروسي في 28 كانون الأول 2022 في موسكو حيث جرى بحث تفاصيل الترتيبات الممكنة لتولّي قوات سوريّة مناطق سيطرة الأكراد على الخرائط.
2- بعدما عالجت موسكو انزعاج إيران من الخطوات الآيلة إلى عقد مصالحة تركية سورية برعاية روسية من دون علمها، بضمّها إلى جهود التطبيع بين البلدين بحيث باتت الاجتماعات رباعية، ساهمت القيادة الإيرانية في إقناع الأسد بالتجاوب مع طلب روسيا رفع مستوى الاجتماعات. وفي معلومات استقتها “أساس ميديا” من أوساط سوريّة على صلة بالنظام أنّ المسؤولين الإيرانيين دعوا الأسد إلى الاشتراك في الاجتماعات التي يرعاها الروس الذين يرفضون الشروط المسبقة ويدعون دمشق إلى طرح مطالبها بالانسحاب التركي خلال الاجتماعات الرباعية. ووعد الجانب الإيراني دمشق بأنّه سيتضامن معها في ما تطرحه في الاجتماعات وصولاً إلى القبول بالانسحاب من هذه الاجتماعات إذا قرّر الجانب السوري ذلك. ولذلك صرّح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال زيارة دمشق في 6 أيار أنّ بلاده “تلعب دور الوساطة بين أنقرة ودمشق وترفض وجود قوات تركية أو أميركية على الأراضي السورية”.
3- حاول الجانب السوري إبقاء الاجتماعات على مستوى نواب وزراء خارجية الدول الأربع الذين اجتمعوا في موسكو في 3 نيسان الماضي، لكنّ “الأوامر” دفعته إلى القبول باجتماع وزراء الخارجية في منتصف أيار الجاري، بعدما كان وزراء دفاع الدول الأربع التقوا مجدّداً في نهاية نيسان في العاصمة الروسية.
لكلّ تسريباته… وللمصالحة تداعيات داخليّة
حرص الجانب السوري على التأكيد أنّه في كلّ الاجتماعات التي عُقدت ناقش الانسحاب التركي من الأراضي السورية، فيما لم تأتِ البيانات الروسية، ولا سيما تلك التي صدرت عن وزارة الدفاع، على ذكر ذلك. أمّا الأوساط المتّصلة بموسكو فتذكّر بأنّ مجموعة أستانا تعتبر الوجود التركي مؤقّتاً، بدليل التعاون الروسي والإيراني معه على إدارة ما سبق أن سُمّي إدارة عمليّة “خفض التوتّر” لوقف القتال في المناطق السورية منذ عام 2018. هذا فضلاً عن اتفاقية أضنة الموقّعة بين الجانبين السوري والتركي عام 1998 التي تتيح للجيش التركي أن يدخل الأراضي السورية الحدودية لإزالة أيّ مخاطر على أمنه ثمّ الخروج. ولذلك صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قبل اجتماع وزراء الخارجية الأربعة أنّ الانسحاب التركي من شمال سوريا سيتمّ عندما تتوقّف العمليات ضدّ الإرهابيين بهدف إبعادهم عن الحدود، مشيراً إلى أنّ الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب ستملؤه التنظيمات التي تعتبرها تركيا إرهابية.
إقرأ أيضاً: العرب وإردوغان: النظر بعيون جديدة
بعد انتهاء الانتخابات التركية يُنتظر أن تتريّث موسكو بضعة أسابيع قبل أن تدعو إلى قمّة رباعية تجمع الأسد وإردوغان ورئيسي مع بوتين. لكنّ الأول يسعى إلى تأجيل هذا الاستحقاق قدر الإمكان لأنّ الترتيبات التي ستُناقش تشمل خطوات سياسية تواكب الخطوات العسكرية التنسيقية. فتولّي قوات الجيش السوري أمن الحدود بالتنسيق مع القوات الروسية والتركية والإشراف على عودة المهجّرين يحتاجان أيضاً إلى ترتيبات سياسية تعالج أوضاع المعارضين السوريين الموجودين في تركيا وغيرها ممّن سيعودون إلى الشمال، وتشمل أيضاً دمج قوات “الجيش السوري الحر” المدعومة من أنقرة في الجيش السوري النظامي. وكلّ ذلك سينقل البحث إلى مستوى الحلّ السياسي الذي تناولته مقرّرات قمّة جدّة وسائر اللقاءات العربية مع الجانب السوري قبل القمّة وبعدها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@