في الظاهر كانت نتائج الانتخابات واضحة: ففي الدورة الأولى فاز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في البرلمان. وفي الدورة الثانية فاز رجب طيب إردوغان بالرئاسة. لكن عندما نذهب للتفاصيل، فإنّ إردوغان وحزبه وحلفاءه فازوا بنسبة 45% في البرلمان، بينما في انتخابات الرئاسة حصل إردوغان على 53%، وحصل خصمه على 47%. وعندما نتذكّر أنّ حزب العدالة والتنمية ورئيسه هم في السلطة منذ عام 2002، فإنّ النتائج بعد عقدين في السلطة تُعتبر نصراً معتبَراً. إنّما تُظهر النتائج للمرّة الثانية أو الثالثة أنّ التحدّيات الداخلية أمام إردوغان ما تزال كبيرةً أيضاً. ففي المدن الكبيرة ما تزال المعارضة أو المعارضات بارزة، بينما يتقدّم حزب العدالة والتنمية في المدن الوسطى والأرياف في مناطق الأناضول على وجه الخصوص، وفي المناطق الحدودية. واللافت أنّه حتّى في مناطق الزلزال ما يزال إردوغان متقدّماً باستثناء مناطق محافظة هاتاي التي يكثر فيها العلويّون والأكراد. وعلى هذا يبدو أنّ الانتخابات البلدية في عام 2024 ستُظهر نفس التحدّيات في المدن الكبرى وفي المناطق ذات الوجود الكرديّ والعلويّ الكثيف.
إردوغان والغالبية المذهبية
إذن كانت الغالبية المذهبية ذات تأثير على إردوغان وعلى خصومه، وإن لم يتحدّث أحدٌ عن ذلك ظاهراً. ويبدو أيضاً وأيضاً أنّ “غولن” وأنصاره (وهم من السُّنّة ويُقال أنّهم يمثّلون الدولة العميقة!) ما كان لهم تأثير انتخابي ضدّ إردوغان، لأنّ الغالبية التركيّة حسمت أمرها لصالح إردوغان. لكنّ هناك من يذهب إلى أنّ أنصار غولن موجودون أيضاً في المدن، التي لم تكن لإردوغان أكثريّاتٌ واضحة فيها.
كانت تركيا دائماً قوّةً ملحوظةً في الشرق الأوسط. لكنّها كانت بالدرجة الأولى قوّةً أطلسية. أمّا في “عصر” إردوغان فصارت لها أذرُعٌ خارج حدودها، وخارج إرادة الأطلسي والاتحاد الأوروبي
فلنذهب إلى السياسات التي سيتّبعها إردوغان حتى عام 2028. في الداخل يبدو أنّ الاقتصاد سيظلُّ الهمَّ الأوّل بالنظر للأزمة الاقتصادية والماليّة التي لم تجد حلّاً. وقد ساعده القطريون والإماراتيون والسعوديون، لكنّ الأوضاع الاقتصادية والماليّة لم تجد حلّاً أو اتّجاهاً نحو الحلّ. وتشير معالجات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاقتصادات الغربية الكبرى إلى أنّ مكافحة التضخّم ستظلّ برفع سعر الفائدة، لكنّ إردوغان لا يميل إلى هذا الحلّ، ولذلك غيّر محافظ البنك المركزي مرّتين. ولذلك أيضاً يقول الخبراء إنّ إردوغان سيظلّ معتمداً على إجراءات وسياسات تشجيع الاستثمارات الخارجية، والإفادة من تشجيع الصادرات وفتح الأسواق بالجوار وفي شرق أوروبا وشرق آسيا وإفريقيا. ويتحدّث المسؤولون الأتراك عن الصناعات الدفاعية التي يأملون أن تجد أسواقاً أكبر في العالم العربي وآسيا وإفريقيا. والمعروف أنّهم يتنافسون مع الإيرانيين في صناعة مسيَّرات بيرقدار. إيران تصدّر المسيّرات (ظافر وأخواتها) إلى روسيا، والأتراك يصدّرونها إلى أوكرانيا بين أسواقٍ أُخرى.
في الانتخابات الأخيرة على وجه الخصوص عادت مشكلتا الأكراد واللاجئين السوريين إلى الظهور والاستغلال. وفي حين لم يستغلّ المعارضون القضية الكردية حرصاً على أصوات الأكراد، فقد استغلّوا بإسراف مشكلات اللجوء السوري. وكان ردّ إردوغان وحزبه أنّ حلّ مشكلة اللجوء السوري هي من ضمن أولويّاته. وهو يلتزم مبدأين: أن لا يُرغم أحداً على العودة، وأن يتفاوض مع النظام السوري بوساطة روسية لكي لا يعيد اللاجئين إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي بداخل سورية فقط، بل وإلى المناطق التي يسيطر عليها النظام. ولذلك المتوقَّع بالفعل أن تستمرّ المفاوضات بين الطرفين، وربّما تتحسّن العلاقات الثنائية. وليس الأمر مرتبطاً بإعداد مناطق الهجرة والتهجير لاستقبال العائدين فحسب، بل وبتأمين المناطق الحدودية السورية مع تركيا التي يوجد فيها حزب العمّال الكردستاني الذي يقاتل النظام التركي من سورية ومن العراق. ومن جهته، لا يحبّ النظام السوري أيضاً الانفصالية الكردية بسورية وبقلبها حزب العمّال، لكنّ الأميركيين يحمون المناطق الكردية بألفَيْ عسكري يتمركزون في قواعد صغيرة أهمّها في منطقة التنف. ويعلّل الأميركيون تلك الحماية بالاستمرار في مكافحة إرهاب تنظيمَيْ داعش والقاعدة. ولا يؤيّدون مع الأوروبيين العودة العربية (والتركيّة؟) لتحسين العلاقات مع النظام السوري ما لم يَسِرْ في الحلّ السياسي بحسب القرار الدولي رقم 2254. وقد قال الأتراك أخيراً إنّهم يؤيّدون أيضاً الحلّ السياسي، لكنّهم يمشون عمليّاً في الحلّ الموازي بأستانا الذي يجمع الروس والإيرانيين والأتراك والنظام السوري.
ماذا فعل إردوغان لتركيا دوليّاً؟
في المجال الدوليّ، رفع إردوغان تركيا إلى مستوى القوى الوسطى ذات الطموحات الاستراتيجية والسياسات المتمايزة عن حلف الناتو الذي تركيا عضوٌ فيه. وتشاجر مع الأميركيين علناً في عدّة مسائل، منها استيراد صواريخ من روسيا، وإعراض الأميركيين عن تزويد تركيا بطائرات F16، وقد تستمرّ حال الهدوء بين الطرفين بفضل بعض الرضا عنه في تزويد أوكرانيا بالمسيَّرات، وتوسّطه إلى جانب الأمم المتحدة في فتح الممرّات بالبحر الأسود لتصدير سِلَع الغذاء من أوكرانيا إلى العالم. ويتعاون إردوغان مع روسيا منذ سنوات، لكن لا يقتصر هذا التعاون على سورية فقط، بل ويشمل أيضاً التسوية أو الهدنة بين أذربيجان وأرمينيا.
في السنتين الأخيرتين فتح إردوغان المجال لتحسين العلاقات مع الدول العربية بعد خصومات لسنوات بسبب إيوائه ودعمه للإخوان المسلمين. وينتظر المراقبون الأتراك أن تستمرّ المفاوضات بين مصر وتركيا على مستوىً عالٍ باتجاه إعادة العلاقات الدبلوماسية. ويبقى بينه وبين مصر (والعرب) ملفّان يحتاجان إلى مزيدٍ من الجهد، وهما: التدخّل التركي في ليبيا، وتحدّي تركيا للحدود البحريّة الدولية من أجل البحث عن النفط والغاز في المنطقة الواقعة بين اليونان وقبرص والسواحل الليبية، فيما لمصر اتفاقيّاتٌ في مسائل الطاقة مع اليونان وقبرص.
إقرأ أيضاً: لماذا احتفل سُنّة لبنان بفوز إردوغان؟
كانت تركيا دائماً قوّةً ملحوظةً في الشرق الأوسط. لكنّها كانت بالدرجة الأولى قوّةً أطلسية. أمّا في “عصر” إردوغان فصارت لها أذرُعٌ خارج حدودها، وخارج إرادة الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وما عادت مسألة دخولها الاتحاد الأوروبي مطروحة، كما كان عليه الأمر عندما كان يحكم تركيا الكماليّون. بيد أنّ الانتخابات الأخيرة أظهرت أنّ المتوطّنين بأوروبا، وهم جاليات كثيفة، من أصول تركية يدعمون في غالبيّتهم إردوغان وحزبه.
الانقسام في المجتمع التركي واضح كما ظهر في الانتخابات الأخيرة. لكنّ إردوغان غيّر وجه تركيا وسياساتها ودورها بالمنطقة. وسيكون على العرب والعالم أن يروا تركيا الإردوغانيّة بعيونٍ جديدة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@