طرحت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لدمشق أسئلة كثيرة عن مستقبل العلاقات بين “دول الاعتدال العربي”، وبالتحديد مصر ودول الخليج العربي، وبين النظام السوري.
صحيح أنّ زيارة شكري لدمشق سبقتها بعد كارثة الزلزال زيارات قام بها وزيرا خارجية الأردن والإمارات العربية المتحدة أيمن الصفدي وعبدالله بن زايد ووفدان من الاتحاد البرلماني العربي والحكومة اللبنانية، غير أنّ زيارة الوزير المصري تكتسب أهمية خاصّة نظراً إلى مركز الثقل الذي تمثّله القاهرة عربياً وإقليمياً.
زيارة دمشق هذه وإن كانت الأولى لمسؤول مصري بهذا المستوى منذ اندلاع الحرب في سوريا سنة 2011، إلّا أنّ أهميّتها القصوى لناحية التوقيت تتمثّل في حصولها في أعقاب موقف وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بأنّ إجماعاً بدأ يتشكّل، ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي، بل في العالم العربي، على أن لا جدوى من عزل سوريا، وأنّ الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما حتى تتسنّى على الأقلّ معالجة المسائل الإنسانية.
طرحت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لدمشق أسئلة كثيرة عن مستقبل العلاقات بين “دول الاعتدال العربي”، وبالتحديد مصر ودول الخليج العربي، وبين النظام السوري
دلالات الزيارة المصريّة
بيد أنّ دلالات زيارة شكري لدمشق تتطلّب قراءة متأنّية وحذرة. فلا يمكن اعتبارها خطوة حاسمة على طريق طيّ صفحة عزلة النظام السوري، قبل تعليق قرار تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية، الذي اتّخذ في القاهرة في عام 2011. وهذا لم تظهر مؤشّرات كافية إلى حدوثه على الرغم من الحراك العربي المتسارع باتجاه دمشق، فضلاً عن أنّ كلام الوزير السعودي الأخير بخصوصها يوفّر إمكانات أكبر لحدوثه، علماً أنّه كان قد أعلن في ختام القمّة العربية الأخيرة في الجزائر أنّ القمّة المقبلة ستُعقد قبل نهاية آذار في المملكة العربية السعودية، لكنّ موعدها النهائي لم يُعلن بعد. وهو ما يطرح سؤالاً عمّا إذا كان التأخير في إعلان موعدها مرتبطاً بإمكان استعادة دمشق مقعدها في الجامعة العربية. لكنّ أيّ ترتيب عربي لمسألة شكل ومستوى مشاركة النظام السوري في القمّة العربية المقبلة، لن يصل إلى حدّ الترميم الكامل لعلاقات دمشق العربية وكأنّ أحداث العقد الماضي كانت سحابة صيف عابرة.
وليس قليل الدلالة في هذا السياق حرص الوزير شكري على إضفاء طابع “تضامني وإنساني” على زيارته دمشق. وهو ما يعكس التأنّي المصري في إعطاء هذه الزيارة طابعاً سياسياً، وإن كان مجرّد حصولها يحمل معنى سياسياً في لحظة إقليمية ودولية تشهد تحوّلات جيوسياسية كبيرة، وخصوصاً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. فمصالح الدول حتّى المتحالفة فيما بينها بدأت تتقاطع وتفترق وفق تحالفات لا يمكن ألا تتزحزح، وخصومات لا يمكن ألّا تتبدّل، على خلاف ما كانت عليه الحال إبّان الحرب الباردة.
الموقف السعوديّ
الموقف السعودي من النظام السوري في اللحظة الراهنة هو الموقف العربي الأهمّ لأنّ الرياض:
– تمثّل الآن مركز الثقل السياسي والاقتصادي الأبرز في العالم العربي.
– لأنّها بين العواصم العربية الأكثر حضوراً على الخريطة الدولية، نظراً إلى إدارتها شبكة علاقات دولية معقّدة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وهذا ينعكس حتماً على مواقفها من الملفّات الإقليمية بما فيها ملفّ الأزمة السورية.
إذا كان موقف الرياض خاصّاً بشأن الحرب في أوكرانيا وفقاً لتوازنات علاقاتها مع كلّ من روسيا والولايات المتحدة الأميركية الخصمين اللدودين، فهي حتماً تقارب سياساتها الإقليمية كجزء لا يتجزّأ من خريطة التوازنات تلك. وبالتالي فإنّ أيّ سياسة سعودية جديدة حيال النظام السوري ستأخذ بطبيعة الحال بشروط التموضع الدقيق للرياض دولياً وإقليمياً.
وإذا كانت علاقات المملكة العربية السعودية مع روسيا قد شهدت تطوّراً إيجابياً في الآونة الأخيرة، ولا سيّما ضمن تحالف “أوبك +”، فإنّ العلاقات السياسية والأمنيّة بين الرياض وواشنطن لم تتبدّل إلى الحدّ الذي يمكن معه توقّع أن تسلك السعودية مساراً معاكساً تماماً للسياسات الأميركية في المنطقة، وبالأخص تجاه إيران صاحبة النفوذ القوي في سوريا. وهذا يجعل الملفّ السوري بالنسبة إلى “دول الاعتدال العربي” ملفّاً إيرانياً بالدرجة الأولى.
دلالات زيارة شكري لدمشق تتطلّب قراءة متأنّية وحذرة. فلا يمكن اعتبارها خطوة حاسمة على طريق طيّ صفحة عزلة النظام السوري، قبل تعليق قرار تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية
لا تحوُّل جذريّاً
لذلك يجافي الواقع توقُّع تحوُّل جذري وسريع في المقاربة السعودية للأزمة السورية. فتحوّل كهذا يعني راهناً افتراقاً كبيراً في سياسات كلّ من الرياض وواشنطن تجاه إيران وسوريا. بينما الواقع أنّ التمايز بين مواقف كلّ من الرياض وواشنطن، الذي يمكن أن يحتمله مسار العلاقات بينهما في ظلّ الوضع الدولي والإقليمي الراهن، لا يمكن أن يصل إلى حدّ التناقض الجذري في مقاربتهما ملفّين مترابطين بأهميّة ملفّي سوريا وإيران.
والحال هذه لا يمكن توقّع اتجاه سعودي متسارع لتطبيع كامل مع النظام السوري، فيما ترفض أميركا بشكل قاطع مثل هذا التطبيع، خصوصاً أنّ لواشنطن قواعد عسكرية في شرق سوريا. وهذا ما يجعل أيّ تطبيع عربي جامع وكامل مع دمشق بمنزلة رفع مبكر لأيّ غطاء عربي عن الوجود العسكري الأميركي في سوريا.
والتشدّد الأميركي حيال إيران، بعد وصول مفاوضات برنامجها النووي إلى حائط مسدود، لا يمكن أن تقابله الرياض بمرونة مفتوحة حيال طهران. بيد أنّ السعودية التي كانت قد انتهجت سياسة مغايرة حيال إيران في أعقاب تسارع وتيرة المفاوضات الإيرانية – الأميركية، لم تعطِ أيّ إشارة إلى أنّها في صدد التخلّي عن سياسة الحوار مع طهران.
غير أنّ هذا الحوار ما يزال يسير بوتيرة بطيئة ولم يتمخّض حتّى الآن عن نتائج إيجابية تشمل ملفّات المنطقة، وبالتحديد ملفّا سوريا ولبنان اللذان يُعتبران ملفّين استراتيجيَّين بالنسبة إلى إيران، ولو كان هذا الحوار قد أسهم في إنتاج تهدئة مستمرّة في اليمن.
تأنّي الرياض
هذا الواقع دفع الرياض إلى التأنّي في مقاربتها هذين الملفّين نظراً إلى استمرار طهران في تحويل العاصمتين اللبنانية والسورية إلى مساحة نفوذ أمنيّ وعسكري صافٍ لها. وهو ما يشكّل تهديداً مباشراً لأمن الدول العربية، وفي مقدّمها السعودية التي لطالما استهدفها الحوثيون بالمسيّرات الإيرانية التي كان الاجتماع الأمني في دمشق يهدف إلى تطويرها لكن استهدفته غارة إسرائيلية الأسبوع الماضي.
بالمحصّلة ثمّة اختلاف جذري بين مقاربتَي كلّ من الرياض وطهران لملفّات المنطقة، مردّه إلى أنّ التهدئة تشكّل عنواناً استراتيجياً للمملكة العربية السعودية، فيما تشكّل عنواناً تكتيّاً لإيران التي لم تتخلَّ عن سياساتها الهجومية، بل والعدائية في المنطقة. وهذا ما يجعل الرياض في موقع تفاوضي يفرض عليها احتساب خطواتها في الملفّات ذات الصلة بطهران بدقّة.
هذا التأنّي السعودي يعكسه بوضوح كلام الوزير بن فرحان بشأن سوريا على هامش منتدى ميونخ للأمن الأسبوع الماضي. فهو إذ تحدّث عن غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حلّ سياسي في سوريا، حدّد عنواناً واضحاً للحوار مع النظام السوري يقتصر على معالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين بعد الزلزال المدمّر. يبيّن هذا التوجّه أنّ الرياض لا تنتهج سياسة تخلٍّ تامّ عن الملف السوري، لكنّها في المقابل لا تعتمد سياسة انخراط كامل فيه. وهذه معادلة يتيحها العنوان الإنساني، وهو العنوان نفسه الذي تقارب السعودية من خلاله حتّى الآن الملف اللبناني.
لبنان وسوريا
هناك أوجه شبه في المقاربة السعودية للأزمتين اللبنانية والسورية على قاعدة صعوبة الوصول إلى حلّ سياسي لهاتين الأزمتين بسبب شروط إيران فيهما. لذا يمكن فتح مسارات إنسانية حيالهما قد تفتح الطريق تدريجاً لمسارات سياسية مختلفة بقدر تبدّل الشروط الإيرانية تلك.
إقرأ أيضاً: عربٌ في سوريا… بلا السعودية والكويت وقطر
لكن ليس هناك أيّ وهم في إمكان حدوث تبدّل سريع في هذه الشروط. بعبارات أخرى من المستحيل الظنّ أنّ بشّار الأسد مستعدّ أو قادر على الخروج من العباءة الإيرانية، أو حتى على إنتاج توازن بين علاقته بإيران وعلاقاته العربية على غرار ما فعله رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي ويفعله الآن خلفه محمد شياع السوداني. هذا يعقّد إنتاج إجماع عربي على علاقات سياسية كاملة مع النظام السوري، وهو ما يدركه الأسد. ولذلك قال أمام الوزير شكري إنّ العمل لتحسين العلاقات بين الدول العربية بشكل ثنائي هو الأساس لتحسين العمل العربي بشكل عام. وهو بذلك يحاول اللعب على التباينات ولو غير الجذرية في مقاربة الدول العربية الأساسية للملفّ السوري، وبالتحديد بين مصر والرياض.
كلّ هذا المشهد المعقّد يستبعد الأوهام القائمة على أنّ أيّ “انفتاح” عربي، ستكون له انعكاسات على لبنان، وبالتحديد على ملف رئاسة الجمهورية. فالواقع أنّ النهج العربي الجديد حيال سوريا يؤكّد أن لا انخراطَ عربيّاً كاملاً، وبالأخصّ سعودي، في ملفَّي سوريا ولبنان، ولا تخلّيَ مطلقاً عنهما. وهذه معادلة لا تؤخّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولا تستعجله. فإذا انتُخب فلا مانعَ، وإن لم يُنتخب فتلك ليست مسؤولية عربية، وبالتحديد سعوديّة!