حتى أسابيع خلت، لم يكن النقاش حول هويّة رئيس الجمهورية المقبل قد بدأ بعد. كان الجميع يتدلّون من أشجارهم العالية، وينتظرون من يُنزلهم عنها. كلّهم كانوا يُعلون أصواتهم، ويتظاهرون بأنّ النقاش مغلق، ما لم تُنفّذ طلباتهم. لكن طرأت عوامل عديدة، أنزلتهم كلّهم إلى أرض الواقع، ليبدأوا النقاش الفعليّ، على مشارف الانهيارات الكبيرة التي، وهذا خبر سيّئ، لم تبدأ بعد.
قبل أشهر، لم يكن هناك أزمة حكومية. كان ميشال عون في بعبدا، والحكومة شرعية، ومجلس النواب يجتمع، والقضاء “ممسوك”، وكذلك الأمن، والمصارف تعمل.
تبدو الكتلة السنّيّة الوحيدة المتماسكة، كتلة “الاعتدال الوطني”، أقرب إلى أيّ رئيس يتفاهم عليه اللبنانيون، وهم يقاربون 10 إلى 12 نائباً سنّيّاً، أي نصف سُنّة البرلمان
لكنّ أشهراً قليلة من الفراغ وانعدام التوازن في المؤسّسات “الأصليّة” في النظام السياسي، فرّخت أزماتٍ لم نكن نعرف أنّها على الأبواب، وسيفرّخ الكثير غيرها في الآتي من الشهور:
1- أزمة الحكومة: و”شرعيّة” اجتماعاتها التي قسمت البلاد بين مسلمين ومسيحيين.
2- أزمة القضاء: الذي انفجر بعد رحيل ميشال عون، وبات عنوانه “السلبطة” القضائية، بين المحقّق العدلي في تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، ومدّعي عامّ جبل لبنان القاضية غادة عون.
3- أزمة المصارف: وإقفالها وصراعها مع غادة عون، ومع الحكومة، ومع المودعين.
4- أزمة مجلس النواب: الذي عجز عن الاجتماع للتمديد لأحد أركان النظام، المدير العامّ للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.
هذه الأزمات دفعت الجميع إلى “التواضع”:
1- وليد جنبلاط: كالعادة تقدّم الصفوف، وقدّم التنازل – التراجع، أو قُلْ “التقدّم – الاقتراح: نزَع ترشيح ميشال معوّض عن كتفيه وأعلن ضرورة التخلّي عن “مرشّح التحدّي”، داعياً الآخرين إلى التوافق على جوزف عون أو صلاح حنين أو جهاد أزعور.
2- حزب الله: في حوار مع جريدة “الأخبار”، أعلن نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أنّ “الممرّ الأساس لانتخاب الرئيس هو مواصفاته وامتلاكه تجربة سياسية والقدرة على التحاور مع الجميع وإقامة علاقات مع الدول العربية، وأن لا يشكّل تحدّياً لأحد ولا يرفع سيف التحدّي متّكئاً على أحد. ولنا رغبة أكيدة بأن نكون متفاهمين في هذا الشأن مع التيار الوطني الحر”.
ومثله قال رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد: “نريد رئيساً منفتحاً على الجميع، ويستطيع التحدّث مع الجميع، ولا يكون عليه “فيتو” مسبق من الآخرين”. وفي هذا تراجع عن التمسّك بسليمان فرنجية وموافقة على أن لا يكون “رئيس غلبة” لبعض اللبنانيين على بعضهم الآخر.
قبل أشهر، لم يكن هناك أزمة حكومية. كان ميشال عون في بعبدا، والحكومة شرعية، ومجلس النواب يجتمع، والقضاء “ممسوك”، وكذلك الأمن، والمصارف تعمل
3- النواب السُّنّة: تبدو الكتلة السنّيّة الوحيدة المتماسكة، كتلة “الاعتدال الوطني”، أقرب إلى أيّ رئيس يتفاهم عليه اللبنانيون، وهم يقاربون 10 إلى 12 نائباً مع حلفائهم، أي نصف سُنّة البرلمان. لم ينتخبوا ميشال معوّض، ولا يعارضون سليمان فرنجية. هم في الوسط، والوحيدون الذين لم يكونوا على الشجرة منذ أشهر. ومثلهم معظم النواب السُّنّة، خارج كتلة حزب الله طبعاً.
4- التغييريّون: وصل نواب 17 تشرين وزملاؤهم إلى طريق مسدود، وبدأوا يستشعرون فقدانهم الغطاء الشعبي الكبير الذي أوصل 13 منهم إلى مجلس النواب. ولا يستطيعون أن يكونوا جزءاً من التعطيل في المرحلة المقبلة. وهم ملزمون بالذهاب إلى حوارات وتسويات.
5- المسيحيون: باستثناء بشير الجميّل، لم يُصنع في تاريخ لبنان رئيس بتوافق مسيحي. كان ميشال سليمان استثناءً ثانياً، لكنّه انتُخِبَ دولياً وليس في لبنان. وبالتالي لن يتّفق المسيحيون إلا بتسوية خارجية، أو بمعجزة كبيرة.
وما إعادة طرح مصير تفاهم مار مخايل بين حزب الله والتيار العوني إلا بسبب فقدان العونيين “قدرتهم، منفردين، على التعطيل”، وفقدانهم “التوقيع” الذي كانوا “يبتزّون” به البلاد.
ربّما أوضح رسالة من الحزب لجبران باسيل كانت على لسان نائب الأمين العام نعيم قاسم، في حوار مع جريدة “الأخبار”: “مستقبل التفاهم معلّق إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية”. وبالتالي بات جبران أمام حائط مسدود، وبدأ يطرق أبواب خصومه السابقين، إمّا صادقاً، أو راغباً بمناكفة حزب الله سياسياً.
باستثناء بشير الجميّل، لم يُصنع في تاريخ لبنان رئيس بتوافق مسيحي. كان ميشال سليمان استثناءً ثانياً، لكنّه انتُخِبَ دولياً وليس في لبنان. وبالتالي لن يتّفق المسيحيون إلا بتسوية خارجية، أو بمعجزة كبيرة
وهمان… وخطران
النقاش بدأ إذاً. الأزمات تحاصر اللبنانيين، والأطرافَ السياسية أيضاً. لكن دون الوصول إلى خواتيم سعيدة وهمان وخطران.
أمّا الوهمان فهما:
– وهم الغلبة: التي تُغني عن التفاهم. وقد اقتنع حزب الله وحليفه العوني بأنّ الغلبة هذه المرّة لن تؤدّي إلا إلى عهد جديد من “الجحيم”.
– وهم الوفرة: التي تُغني عن الإصلاح. وهو وهم يقوم على اعتقاد اقتصادو – سياسي، مفاده أنّ استثمار الغاز والنفط في البحر، معطوفاً على تفاهم ضمني مع إسرائيل وأميركا، يُغني عن الإصلاح وعن التفاهم مع صندوق النقد الدولي وعن تقديم تنازلات في علاقات لبنان العربية. وهو لا يقلّ “وهماً” عن وهم الغلبة الذي تبخّر في عهد ميشال عون.
وأمّا الخطران فهما:
– خطر الرئيس القويّ: وهي نظرية تقوم على قوّة الرئيس “العشائرية” في بيئته المسيحية. وهذا يجعل الرئيس “القويّ” يخرج من وعلى الدستور، انطلاقاً من قوّته الشعبية التي تسمح له بتمثيل جزء من اللبنانيين، لا أن يكون حكَماً بين الأطراف المتصارعة في بلاد ملتهبة بالحروب الصغيرة والكبيرة.
– خطر الرئيس الضعيف: الفاقد للحيثيّة المسيحية الشعبية، أي العشائرية، لأنّه سيكون معرّضاً للابتزاز الطائفي والمذهبي، وسيكون مضطرّاً إلى اتخاذ مواقف “متطرّفة” ليثبت أحقّيّته المسيحية.
الرئيس “القو- يف”
أمام هذين الخطرين والوهمين، لا يمكن الوصول إلى رئيس “غلبة”، على ما يدعو العرب ويطالبون. والحلّ برئيس لا يكون قويّاً بالمعنى العشائري، لكن لا يكون ضعيفاً بالمعنى المسيحي. وبينهما يمكن الذهاب إلى رئيس يمتلك حيثيّة مسيحية ووطنية معقولة وواضحة، لئلّا يكون عرضة للابتزاز، ولئلّا يكون ممثّلاً لطرف دون آخر، متحصّناً بالعشيرة بدل الدستور، وبالحزب بدل القبول الوطني.
وجدول أعمال الرئيس الوسطي يكون “المناصفة” في الداخل، وقيادة حوار بين الأطراف، وفي الخارج: استعادة التوازن في علاقات لبنان العربية والدولية. أي باختصار: الحوار في الداخل، وترميم علاقات لبنان في الخارج.
إقرأ أيضاً: نريد رئيساً لا يطعن أولادنا في ظهورهم
أمّا الهروب إلى أحد الوهمين، أو إلى أحد الخطرين، فهو إمعانٌ في الخراب والانهيار، لأنّه سيمدّد الأزمة ويعيد تجريب المجرَّب. ونحن بعد شهر تموز، حين تنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان، سنكون أمام حزمة جديدة من الأزمات. فشروط “الانتظار” سياسياً لا تنفصل عن “الثبات”. يمكن لبلد ثابت وهادىء أن ينتظر. أمّا البلاد المنهارة، فالوقت يمرّ كالسيف على رقاب أهلها وسياسيّيها. والأزمات التي وُلدت في الأشهر الثلاثة الماضية مرشّحة لأن تفرّخ أزماتٍ لا نعرف عنوانها اليوم.
المريح أنّ الجميع اقتربوا من إعلان التعب والاستعداد للتنازل… بانتظار الضوء الأخضر الخارجي، كي يجلب الجميع إلى طاولة التنازلات.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@