رنّ جرس الهاتف في مكتب اليد اليمنى لسمير جعجع. على الخطّ المعاونان العمليّان لميشال عون.
من دون مقدّمات بدأ الكلام: منذ سنتين ونحن نقول ونردّد أنّ علينا أن نجمعهما. هذا هو الوقت لذلك.
أمين الجميّل في دمشق في رحلة 21 أيلول 1988 الأخيرة. مورفي أنجز معادلة مخايل الضاهر أو الفوضى. الفوضى بدأت.
التقى عون وجعجع في اليرزة. كان عرس هناك. حوّل لقاء أمين الجميّل وحافظ الأسد في الشام إلى شيء من مجلس عزاء.
اتّفق قائدا الجيش والقوات. لكن على التعطيل. فحقّقاه. انتصر الشغور الأوّل (بما أنّ فؤاد شهاب الكبير أنسى تاريخنا شغور 1952 بعد استقالة بشارة الخوري. أمّن انتخاب شمعون وأنقذ الوطن في ساعات). شغورٌ أوّل بدأ لفراغٍ كُتب أنّه استمرّ سنتين ونيّفاً.
اللعبة تبدو فعليّاً حيث يرفض الطرفان الاعتراف. عند عون وجعجع. أن يتّفقا اليوم على خيار منشود. لا على مجرّد تعطيل خيار مفروض
يبدو أنّه استمرّ ثلاثين سنة. وما زال يتمادى.
بعد أقلّ من أسبوعين غادر الجميّل إلى منفاه “الطوعي”. بعد أقلّ من ثلاث سنوات لحق به عون إلى منفاه “القسري”. بعد فترة مماثلة دخل جعجع زنزانة الاعتقال…
المشهد يتكرّر. تماماً وفق معادلة ماركس. المرّة الأولى مأساة أو مجزرة. في المرّة الثانية ملهاة أو مسخرة.
هذه بقيّة التفاصيل والنتائج.
*********************
تفصيلان بسيطان تغيّرا في السيناريو: بدل زيارة الجميّل لدمشق أوّل أيّام خريف 1988، اليوم هناك زيارة بعض العرب للعاصمة السورية، بعد دزينة أعوام على وأد ربيعها بالدم، لفرض معادلة “بشّار أو البغدادي”.
وبدل أن يتواصل معاونو عون وجعجع مباشرة. التواصل اليوم بينهما عبر موفد بطريركيّ. أسقف شاب يُجمع عارفوه على أنّه من أبناء الله. متحمّس ملتزم. ربّما يحمل في ذاكرته شيئاً من حكاية “قرنة شهوان” المحظورة وفضلها على الاستقلال الثاني. حتى إنّه هدّد في بيان مكتوب عند اعتقال وليم نون، بالمواجهة “من قبلنا ومن قبل شعبنا بكلّ الوسائل القانونية المتاحة للحدّ من هذا الإسفاف القانوني”.
إذاً كلّ المشهديّة تتكرّر. فرنجيّة الحفيد مكان الجدّ. حزب الله خلفه، مكان الأسد خلف جدّه، يُخفي ورقة مخايل الضاهر الجديد، حتى اللحظة الأخيرة. ماكرون يكرّر ميتران، بنسخة أونلاين. واشنطن تحوّلت من غلاسبي إلى من يوشوش عوكر ويشوّشها من دجّالي كاريش وسماسرته. وفي كلّ الأحوال أولويّاتها في أمكنة أخرى. روما هي روما من تحت ومن فوق. ثوابت واضحة. بلا وسائل ناجعة. بكركي كذلك. البقيّة جمهور أو كومبارس.
أربعة مسارات أساسية
لكنّ مشهد المسارات التي تُبنى عليها الرهانات والمغامرات أو مقامرات بيروت اليوم، يبدو أكثر وضوحاً:
– مسار أوّل خارجي بين الرياض وطهران. يُقال إنّ أيّ انفراج على هذا الخطّ، يسمّي لنا رئيساً. الآمال انتعشت بعد كلام عراقي عن جولة سادسة لمفاوضات بين جارَيْ بغداد، تتوقّع الأخيرة استضافتها على مستوى وزاري هذه المرّة. غير أنّ أحد زوّار الخليج بضفّتَيه في الأسبوعين الماضيين، يجزم أنّ الموعد سيتأخّر. ويجزم أكثر أنّه لن ينعكس مباشرة على لبنان. فيما الكلّ مدرك أنّ هاوية بيروت وانهياراتها أقرب من مواعيد بغداد بكثير.
– مسار ثانٍ للرهان، اسمه “النوويّ”. أو خطّ واشنطن طهران. هنا أيضاً، المؤشّرات متفاوتة جدّاً، حتى التناقض. ما يعني أن لا شيء محسوم. هذه قاعدة السياسة الخارجية لعاصمة العالم. حين لا يكون إجماع، لا يكون قرار. البعض يقول إنّ تورّط طهران في مسيّرات كييف أقفل مسار الاتفاق النووي حاليّاً. بعضٌ آخر يجزم أنّ الدور الإيراني في حرب أوكرانيا طفيف جدّاً ولا تأثير له على مجرياتها. هو مجرّد ورقة مكشوفة ومحروقة يستخدمها الطرفان للتحرّش ببعضهما في بازار العودة إلى التفاوض. تفاوض هو في عمقه على بند أساسيّ واحد، كلّ ما حوله حواشٍ: “أنتم معنا أم مع الصين؟”، ولذلك لا حوار بعد، لأنّه لا جواب بعد.
بكلّ الأحوال، هنا أيضاً لا يمكن لبيروت أن تنتظر حسابات الانتظاريّين القدامى – الجدد.
بدل زيارة الجميّل لدمشق أوّل أيّام خريف 1988، اليوم هناك زيارة بعض العرب للعاصمة السورية، بعد دزينة أعوام على وأد ربيعها بالدم، لفرض معادلة “بشّار أو البغدادي”
– يبقى مسار ثالث خارجي، هو ما ظهر أخيراً عبر دبلوماسية الزلزال. زيارة بعض العرب لدمشق. هل تثمر زلزالاً في السياسة؟
كلّ المؤشّرات تستبعد ذلك. دوليّاً ليس تفصيلاً أن ينطلق في الكونغرس سريعاً قانون لإحباط “جهود نظام الأسد في سوريا لاستغلال كارثة الزلزال والتهرّب من الضغوطات الدولية والمحاسبة”. مع كلّ خلفيّات المسألة وهوامشها أميركيّاً، عشيّة سنة تمهيديّات رئاسية في واشنطن وما يلازمها من مزايدات انتخابية. إقليمياً لا إجماع عربيّاً على أيّ خطوة سوريّة. والأصوات هنا ليست متساوية التثقيل في عمليّة اتّخاذ القرار. صوت ليبيا لا يعادل صوت السعودية. وصوت سلطة فلسطين لا يعادل صوت سلطات قطر.
يبقى الأهمّ في هذا المسار، أنّ سوريا اليوم ليست سوريا 1988. في الواقع وربّما بقرار منها، إفادةً من تجارب طويلة. وبالتالي فلا قدرة لها على حكم لبنان. ولا رغبة ربّما، إذا كان هناك من تعلّم في البلدين والشعبين.
– لا يبقى لنا غير المسار اللبناني الداخلي، لتخريج الحلّ. وليد جنبلاط حسمها قبل سواه. قدّم سلّة أسماء وسطيّة. ليختار حزب الله من بينها رئيساً، كما نقل زميلنا زياد عيتاني في “أساس” أمس. المعادلة مزعجة في الشكل. الأخطر في المضمون. أن يقبل الحزب المبدأ. ثمّ يتصرّف كما فعل الأسد مع سلّة بكركي قبل 35 سنة. يومها اعتبرت دمشق كما لو أنّ “مسؤولي القطر اللبناني” رفعوا للأخ الأكبر 4 أسماء. فاختار هو خامساً. الفخّ نفسه يمكن أن يتكرّر اليوم. فيما الوضع مختلف حتى استحالة التعايش مع تكرار التجربة. خصوصاً معيشياً وماليّاً ونزفاً ديمغرافيّاً كاملاً.
هل يتفق عون وجعجع؟
اللعبة تبدو فعليّاً حيث يرفض الطرفان الاعتراف. عند عون وجعجع. أن يتّفقا اليوم على خيار منشود. لا على مجرّد تعطيل خيار مفروض، كما في أيلول 1988. وأن يكون الخيار وطنيّاً. لا بمنطلقات طائفية ولا بحسابات شخصية. فالأزمة على مستوى وطن. لا بين المدفون وكفرشيما هذه المرّة. ولا حول مدير عامّ “خزمتشي” لدى وريث موهوم. اختيار ينقذ حتى حزب الله من حشْرته، بين تحمّله مسؤولية الارتطام الكبير، إذا حكم وفشل حكماً، وتحمّله مسؤولية الدمار العظيم إذا استمرّ في التعطيل. خيار قادر على جمع الناس لا تمزيقهم. وللرجلين مصلحة جوهرية في ذلك. كي لا يكتب التاريخ أنّ عون أنهى نصف قرن من نضاله مسؤولاً عن حملة باسيل الرئاسية الفاشلة. وجعجع ختم مقاومته بسلسلة طويلة من زهر براعم لمّا تعقد لتثمر بعد.
إقرأ أيضاً: نصف المودعين “شيعة”… فمتى الانتفاضة؟
يبقى هامشان ضروريّان:
– هامش أوّل:، لقاء اليرزة في 21 أيلول 1988، تكرّر في 18 أيار 2005، بعد 17 عاماً تقريباً. في نفس المكان. وإن انتقل من مكتب قائد جيش، إلى غرفة مواجهة السجناء، بين منفيّ عائد لتوّه، ومعتقل يستعدّ للخروج من زنزانته. 17 عاماً، لا وقت للرجلين لانتظارها مرّة أخرى.
– هامش ثانٍ: أنّ الثلاثة الذين تواصلوا هاتفياً لترتيب لقاء 1988، ما عاد هناك “مرحبا” بينهم وبين زعيمَيْهم…
والسلام…
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@