تقول إحدى النكات الإسرائيلية: “لو عاش يهودي واحد في جزيرة، فإنّهُ يبني معبدين.. أحدهما لكي يصلّي فيه، والثاني حتّى لا يصلّي فيه”.
كان بن غوريون ملحداً، لكنّه أقام دولة دينية. ثمّ إنّه حين أعلن تأسيس الدولة، وضع بنفسه أسس ضعفها، فقد ألغى مبدأ التعليم الرسمي الموحّد، وسمح للمتديّنين بتعليم مستقلّ في مدارس دينية، كما أعفاهم من أداء الخدمة العسكرية.
نعم.. لحُكم التوراة
منذ نشأة التعليم الديني في إسرائيل، والقوى الأصولية اليهودية تصعد يوماً بعد يوم، بل لقد أصبحت الأحزاب الدينية هي التي تحدّد تشكيل الحكومة وسياستها، فهي من تقرّر قيام هذا الائتلاف أو سقوطه.
في عام 2009 قال وزير العدل الإسرائيلي ياكوف نيمان خلال مؤتمر للحاخامات في القدس المحتلّة: “يجب فرض قوانين الشريعة اليهودية في إسرائيل”. وأراد الوزير أن ينحّي عدداً من القضاة، ليصبح القضاء الشرعيّ هو الأساس، حيث يحلّ الحاخامات محلّ القضاة.
يرى المتديّنون الإسرائيليون أنّ من لا يحتكم إلى التوراة كافر. وعلى ذلك يكون حكّام إسرائيل كفّاراً لأنّهم لم يحكموا بالشريعة
بعد عشرة أعوام، وفي عام 2019 قال وزير المواصلات الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش: “يريد الإسرائيليون أن يعيشوا في بلدٍ تحكمه التوراة والشريعة اليهودية. يجب إدارة إسرائيل مثلما تمّت إدارتها من قبل تحت حكم الملك داود، والملك سليمان.. وفقاً لأحكام الشريعة”.
وفي عام 2022 عاد نتانياهو إلى السلطة محمولاً على أكتاف التيار الديني.
المعبد والسلطة
في إسرائيل أكثر من 60 ألف معبد يهودي، تُقام فيها الصلاة كلّ صباح ومساء. وفي صباح السبت تكون المعابد ممتلئة بالمصلّين. وعند غروب يوم الجمعة من كلّ أسبوع يجتمع كبار الحاخامات في قرية غريفات في الجليل الأعلى بالشمال، مردّدين أنشودة “فليأتِ من نحبّ”، وذلك بانتظار المسيح لمواكبته إلى القدس، مشياً على الأقدام.
في الجانب الآخر يوجد العلمانيون، وكثيرٌ منهم ملحدون، وهم ينظرون في قلق شديد إلى أولئك الأصوليين. يرى جانب كبير من الساسة أنّ إسرائيل تنقسم بالفعل إلى دولتين:
– واحدة للعلمانيين في تل أبييب تحرس الليبرالية.
– ثانية للمتديّنين في القدس تنتظر المسيح.
في العقود الأخيرة كانت هناك إشارات إلى تطبيق الشريعة في إسرائيل. في عام 2001 هدّدت وزارة الداخلية الإسرائيلية بفرض عقوبات على الذين يُضبَطون وهم يخالفون الشريعة، ويأكلون الخبز في الأماكن العامّة في المناسبات الدينية. وقال وزير الداخلية إيلي يشائي: “على الجميع احترام الشريعة التي تحظر استهلاك الخميرة، وسوف يقوم مفتّشون من الوزارة بفرض غرامات على كل من يتناول الخبز”.
في الوقت نفسه وافق الكنيست بشكل مبدئي على تشريع يقضي بسجن النساء اللائي يصلّين عند “حائط المبكى”. وحسب نائبة الكنيست عن حركة “ميريتس” ناعومي كازان، فإنّ “التمييز بين الرجال والنساء يضع إسرائيل في خندق واحد مع أفغانستان وإيران”.
في بلديّة “بني باراك” قرب تل أبيب أصدر حاخام البلدية فتوى بمنع النساء من الاختلاط بالرجال داخل عربات المواصلات العامّة، وأفتى آخر بمطاردة النساء المتبرّجات، وظهرت منشورات وملصقات تؤكّد أنّ كلّ فتاة تعيش في حيّ يهودي وتلبس ملابس قصيرة أو مكشوفة سوف تتعرّض للضرب، ودعا أحد الملصقات إلى “قتل كلّ متبرّجة في إسرائيل”.
في كتابه “رابين.. اغتيال سياسي” يذكر أمنون كابيليوك أنّ الأصوليين اليهود طاردوا النساء في إسرائيل، وحتى في نيويورك قاموا بمنع المطربة الإسرائيلية ميري آلوني من الغناء بإحدى القاعات، لأنّ “صوت المرأة عورة” طبقاً للشريعة اليهودية.
حكّام كافرون
يرى المتديّنون الإسرائيليون أنّ من لا يحتكم إلى التوراة كافر. وعلى ذلك يكون حكّام إسرائيل كفّاراً لأنّهم لم يحكموا بالشريعة. وإذا ما أصبح هناك حاكم متديّن في إسرائيل فإنّ عليه أن يطبّق الأحكام الدينية اليهودية من دون استثناء. فالموسيقى حرام، والغناء حرام، وكلّ الفنون هي بدعٌ حرّمها الله، وعلى ذلك يجب منعها جميعاً.
وفي ما يخصّ المرأة اليهودية، فإنّ صوتها عورة، ووجهها عورة، وحياتها يجب أن تكون رحلة واحدة من المنزل إلى القبر. وإلى جوار منع الفنون، وإلغاء المرأة، يجب تطبيق الحدود الشرعية التي فرضتها التوراة من قطع يد السارق، إلى رجم الزاني وجلد شارب الخمر، طبقاً للشريعة اليهودية.
إسرائيل 2023
في حكومة نتانياهو الحالية تعيش الأصولية الدينية أزهى عصورها في إسرائيل. وبالتالي، فقد أصبح الانقسام الديني والاجتماعي والثقافي في أعلى مراحله.
قام 100 مؤرّخ وأكاديمي إسرائيلي بتوجيه نداء يحذّر من أن “يشكّل ذلك خطراً على بقاء إسرائيل”، وراح محلّلون إسرائيليون يقولون إنّ استمرار التطرّف الديني وصعوده في السلطة والمجتمع سيجعلان الليبراليين الذين صنعوا قوّة إسرائيل في وضع ضعيف، وربّما يدفعانهم إلى مغادرة إسرائيل، ليبقى الأصوليون وحدهم يديرون الدولة، ولأنّهم سيفشلون بكلّ تأكيد، فإنّهم سيدفعون بإسرائيل إلى النهاية.
من اللافت هنا أنّ الأصوليين يتمتّعون بشعبية حقيقية، وأنّ مساحات تأييدهم تتزايد باستمرار، وإعلانهم المتكرّر أنّهم صوت الشعب الذي يريد الشريعة، هو إعلان له أساس قويّ.
في عام 2022 كتب مدير جهاز الشاباك الأسبق يوفال ديسكين مقالاً بعنوان “الحرب الأهلية في إسرائيل”، حذّر فيها من أنّ الانقسام الإسرائيلي سيقود إلى زوال الدولة، بعدما وصل الصراع الاجتماعي والديني إلى حدّ تهديد الأمن الإسرائيلي على نحوٍ غير مسبوق.
إقرأ أيضاً: أطفال القدس يحيلون الزعماء إلى التقاعد
في عام 2023 بدأت ملامح الانكسار الليبرالي في إسرائيل، وشرعت الاستثمارات في الرحيل، وتواترت أنباء عن تراجع تصنيفات اقتصادية وائتمانية في ضوء مخاطر التحالف بين التطرّف والسلطة.
في الأعوام الأخيرة، شهدت إسرائيل تمدّداً في نفوذها الخارجي، واستطاعت أن تعزّز من قوّتها العسكرية والتكنولوجيّة، لكنّ البيت الداخلي الإسرائيلي ليس كذلك. فبينما تتحدّث إسرائيل عن مخاطر خارجية عديدة تشكّل تهديداً لمصالحها، فإنّ الحقيقة البسيطة هي أنّ الانقسام والتمزّق الداخليَّين هما الخطر الأعظم. وفي قولة واحدة: إنّ أكبر تهديد لأمن إسرائيل هي إسرائيل نفسها.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@