الدولار: “أمّ المعارك” في العراق

مدة القراءة 8 د

لم يُترك أمام رئيس حكومة العراق محمد شياع السوداني إلّا الاعتراف العلني بأزمة تهريب الدولار العراقي إلى “الخارج”. ففي مقابلة حديثة أقرّ الرجل بتهريب العملة إلى الخارج عبر تحويلات تتمّ على أساس فواتير مزوّرة لواردات كان يتمّ تضخيم أسعارها، حيث كانت الأموال تخرج ويتمّ تهريبها للخارج، متسائلاً: “ما الذي كنّا نستورده مقابل 300 مليون دولار يومياً”، ولا سيّما مع عدم فقدان الأسواق لأيّ من الموادّ الرئيسية حين تراجعت مبيعات “البنك المركزي” العراقي إلى حدود 30 مليون دولار يومياً، مؤكّداً: “حتماً هذه الأموال كانت تخرج من العراق، وهذه كانت مشكلة مزمنة منذ سنوات”.

في العراق ومنذ تشرين الثاني الماضي تنازع العملة العراقية للحفاظ على قيمتها أمام الدولار وسط هبوط تدريجي وصل إلى حدود فقدان عشرة في المئة من قيمتها أخيراً، في ظلّ ضغوط أميركية لوقف تهريب الدولار من العراق إلى إيران ولبنان وسوريا.

سبق لوزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، أن زار بغداد الأسبوع الفائت مؤكّداً خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره العراقي فؤاد حسين أن “لا فرص للازدهار بالمنطقة من دون الاستقرار”

فقد فرضت واشنطن قيوداً واشتراطات صارمة على بغداد قبل السماح لها بالوصول إلى أصولها الموجودة لدى الاحتياطي الفدرالي الأميركي، ومعظمها من عائدات بيع النفط العراقي.

تجدر الإشارة إلى أنّه منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، يتمّ وضع احتياطيات العراق من العملات الأجنبية في الاحتياطي الفدرالي الذي يتحكّم بإمدادات العراق من الدولارات. بيد أنّ الآليّة الموضوعة بين واشنطن وبغداد باتت بوّابة خلفيّة خطيرة تتيح لطهران الالتفاف على العقوبات الأميركية وتسمح للحرس الثوري على وجه التحديد الحصول على احتياجاته من العملة الصعبة.

أميركا “تأكّدت” أخيراً

وسط تقارير إعلامية أنّ “واشنطن حصلت على أدلّة دامغة بأنّ إيران تداولت خلال الأسبوعين الماضيين دولارات تسلّمها العراق حديثاً من وزارة الخزانة الأميركية”، يبدو أنّ العاصمة الأميركية رفعت سقف تهديداتها للقطاع المصرفي العراقي، كما جاء في تقرير لصحيفة “لو فيغارو” الفرنسية أفاد بأنّ سيف العقوبات مسلّط على 15 مصرفاً عراقيّاً تتبع في أغلبها لمؤسّسات تابعة لأحزاب سياسية تتزعّم ميليشيات مسلّحة في العراق، مشيراً إلى أنّ هذه البنوك تُهرّب أكثر من 100 مليون دولار أسبوعياً.

كلّ شيء يؤكّد أنّ العراق هو الرئة الاقتصادية، لا لإيران وحسب، بل خزينة تمويل لكلّ أنشطة إيران في المنطقة، أكان في سوريا أو لبنان أو اليمن أو داخل العراق نفسه. وصل الأمر بحكومات رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي تخصيص 200 ألف برميل يوميّاً لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال المقتول قاسم سليماني، أي ما يعادل نصف مليار دولار تقريباً في الشهر بأسعار اليوم!!

في سياق مماثل، يكشف وزير الخارجية الأميركي الأسبق مايك بومبيو، في كتاب مذكّراته الصادر أخيراً، عن محادثة جرت بينه وبين رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، عرض عليه في خلالها، أن تزوّد واشنطن العراق بما يلزم لتأمين إنتاج الكهرباء، بدل الاستمرار في استجرار الكهرباء من إيران وشراء الغاز الإيراني للتغذية، وذلك في إطار جهود واشنطن لتجفيف مصادر النظام الإيراني. وقد حذّر بومبيو العبادي من مغبّة تعرّض شركة الكهرباء الوطنية العراقية للعقوبات، بسبب العقوبات الأميركية التي تمنع أيّ كيان من التعامل مع شركات ومؤسّسات إيرانية.

من المرجّح أن يُعطى العراق فترة سماح قابلة للتجديد، والاكتفاء بخلق مناخ ضاغط مع بعض الإجراءات العمليّة التي تخفض إلى حدود كبرى تهريب الدولار إلى إيران

سليماني وحياة العبادي

صدم العبادي محدّثه الأميركي بردّ ينقله بومبيو حرفيّاً:

“بعدما تغادر سيأتي قاسم سليماني لرؤيتي، ربّما بإمكانك أخذ أموالي، لكن هو سيسلب منّي حياتي”.

تختصر هذه المحادثة الأهميّة الاستراتيجية للعراق بالنسبة لإيران، كمورد بديل ومصرف بديل ورئة تُبقي الاقتصاد الإيراني على قيد الحياة، وتمنع انهيار النظام، وهو ما يدركه حتى نظام أعمته الأيديولوجية كنظام الملالي. ففي آخر تصريحاته قال المرشد علي خامنئي إنّ “الارتقاء بمكانة الدولة يتوقّف إلى حدّ كبير على وضعها الاقتصادي، ونحن بحاجة إلى النموّ الاقتصادي للحفاظ على مكانة البلاد في المنطقة والعالم”. وأضاف: “هناك مشاكل معيشية بالبلاد لا يمكن معالجتها إلا من خلال زيادة النموّ الاقتصادي”، مشدّداً على ضرورة العمل للقضاء على الفقر وزيادة رفاهية الأسر في البلاد. وفي غياب أيّ سياسات اقتصادية إيرانية جدّية لتحقيق هذا الأمر، يظلّ نهب العراق هو البديل الموضوعي لنظام خامنئي، لمنع سقوط النظام بالضربات الاقتصادية المتتالية.

السوداني والمرشد..

المنازلة الأخيرة في العراق، هي مجرّد حلقة جديدة من حلقات معركة استعادة العراق وتحريره من الأسر الإيراني، وهي معركة ليست بالبساطة أو السهولة التي قد يتخيّلها البعض. لنتذكّر أنّ رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، وعلى الرغم من مواقفه الأخيرة، أكان في موضوع الدولار أو في إعلانه عن “ضرورة” بقاء القوات الأميركية في بلاده، أو حتى بما يخصّ التأكيد على الهويّة العربيّة للخليج، هو في نهاية المطاف، الرئيس الذي رشّحته الميليشيات الشيعية الموالية لإيران عبر أحزابها السياسية، ومن خلال صفقة الأمر الواقع مع الكُرد والسُّنّة، في غياب تامّ للصدريّين وقوى المجتمع المدني والثورة عن الترتيبات التي حصلت. فلا حاجة إلى المغالاة بشأن قرارات السوداني في وجه عراقيل داخلية يعرف أين تبدأ ولا يعرف أين تنتهي. رغم فترة “السماح”التي أخذها من المرشد الإيراني.

من يحاورون السوداني يحاورونه مدركين لهذه الخلفيّة تماماً، ويسعون إلى اللعب بما هو متوافر من أوراق على طاولة اللعب. يلعب الأردن مثلاً دوراً مهمّاً في “اللوبيينغ” لصالح العراق في العلاقة مع واشنطن، وعينه على مدّ أنبوب نفط من البصرة إلى العقبة بالتعاون مع الإمارات العربية المتحدة. تدرك عمّان أنّ إنجاز ذلك مستحيل إلّا من خلال التعاون مع حكومة عراقية تمتلك حدّاً من العقلانية السياسية والحسّ الوطني ولو أنّها تلعب لعبة توازن دقيق بين إيران والعرب. في إطار هذا الدور الأردني الرافد للعراق، جاء الاتصال الثلاثي بين الرئيس الأميركي جو بايدن، والملك عبدالله الثاني، ورئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، ليعطي إشارة تفيد بأنّ معركة استعادة العراق تتطلّب إجراءات تدريجيّة وبناءً بطيئاً للمصالح يعزّز الربط بين اقتصاد العراق وفضائه العربي.

الأكيد أنّ العراق لن يُدفع إلى خيارات قسريّة كاسرة في الموضوع المصرفي، من خلال إلزامه مثلاً بالتطبيق الفوريّ لكامل مندرجات اتفاقية “سويفت” التي تتيح للمصارف التراسل الآمن بشأن الحوالات الماليّة في مختلف أنحاء العالم

استقلال العراق.. اقتصادياً

يشكّل مؤتمر “قمّة بغداد للتعاون والشراكة” الذي عُقدت نسخته الثانية قبل نحو شهر على شاطئ البحر الميت في الأردن، بحضور السوداني والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعدد من مسؤولي دول الجوار بما فيها تركيا وإيران، إطاراً رافداً آخر للتعاون بين الثلاثي الأردني المصري العراقي، الذي عقد قمّته الثلاثية في عمّان على هامش “قمّة بغداد 2”. يسعى الثلاثي العربي إلى جعل قمّته الثلاثية منصّة لتفعيل التعاون الاقتصادي وربط البنى التحتية، ولا سيّما الكهرباء، وتنشيط الاستثمارات المتبادلة، التي تمثّل قواعد رئيسية لتمكين استقلالية العراق وتفعيل إمكاناته والوصول بها إلى أقصى طاقة ممكنة.

يُسجَّل في سياق الإحاطة العربية الحذرة لبغداد، الاتّصال الهاتفي بين رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس محمد شياع السوداني، ثمّ الإعلان عن دعوة رسمية للسوداني إلى الإمارات سلّمها له وزير العدل الإماراتي عبد الله سلطان بن عواد النعيمي.

كان سبق لوزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، أن زار بغداد الأسبوع الفائت مؤكّداً خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره العراقي فؤاد حسين أن “لا فرص للازدهار بالمنطقة من دون الاستقرار”، مشيراً إلى أنّ “العراق يشهد تطوّراً اقتصادياً إيجابياً جدّاً، وهذا يخلق فرصاً كبيرة”. تأتي هذه الاتصالات في سياق “الهجوم الإيجابي” على العراق والقرار الاستراتيجي بعدم تركه فريسة سهلة ودائمة لإيران.

إقرأ أيضاً: العراق: السوداني يستكمل خريطة الإستقرار

الأكيد أنّ العراق لن يُدفع إلى خيارات قسريّة كاسرة في الموضوع المصرفي، من خلال إلزامه مثلاً بالتطبيق الفوريّ لكامل مندرجات اتفاقية “سويفت” التي تتيح للمصارف التراسل الآمن بشأن الحوالات الماليّة في مختلف أنحاء العالم. ومن المرجّح أن يُعطى العراق فترة سماح قابلة للتجديد، والاكتفاء بخلق مناخ ضاغط مع بعض الإجراءات العمليّة التي تخفض إلى حدود كبرى تهريب الدولار إلى إيران.

إنّها معركة بطيئة وطويلة، لكنّها “أمّ المعارك” الحقيقية في المنطقة، من أجل تحرير العراق.

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

نخبة إسرائيل: خطاب نعيم قاسم “خالٍ من الاستراتيجية”

منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب…

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…