لم تكن صافرة النهاية لبطولة “خليجي 25” إعلاناً لفوز العراق بهذه البطولة وحسب، بل تحوّلت إلى صافرة بداية جدّية وعمليّة لسباق حقيقي بدأته الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني لترميم موقع العراق إقليميّاً ودوليّاً.
كان السوداني واضحاً في موقفه القاضي بتعزيز الانفتاح على العمق العربي بناء على مسارين، أوّلهما ينطلق من نظام المصالح الوطنية، والثاني يؤسّس لخيار عربي يجعل من العراق جزءاً وشريكاً في نظام المصالح العربي، بما يساعد في إعادة تعريف موقعه ودوره بتأييدٍ ومزاجٍ داعمٍ داخليَّين.
ظهرت إعادة صياغة موقع العراق داخل المنظومة العربية، أو علاقته مع عمقه العربي، في الحفاوة الشعبية “المفاجئة والصادمة” التي لاقتها الوفود العربية الخليجية التي جاءت إلى البصرة للمشاركة ومواكبة البطولة الرياضية. وكشفت عن عتب عراقي واقعي على غياب الأشقّاء العرب وابتعادهم لعقود عن العراق وتركه نهباً لتدخّلات ومصادرات قوى إقليمية سعت إلى توظيفه واستخدامه ساحةً لتمرير مصالحها.
على المستوى السياسي، لم تأخذ القيادة السياسية ورئيس الوزراء بالاعتراضات السياسية والدبلوماسية للدولة الإيرانية على استخدام تسمية “الخليج العربي”، في مؤشّر واضح حتى الآن إلى أنّ الموقف العراقي يمرّ بمرحلة جديدة لا يقبل فيها التخلّي عن قناعاته استجابة لمواقف ورغبات الآخرين.
سياسة تجفيف المصادر والمنابع الماليّة، التي تحصل عليها إيران باستخدام السوق العراقية، سمحت لحكومة السوداني بفتح ملفّ مكافحة التهريب والفساد الذي يعيشه القطاع المالي، ولمحاربة عمليات المضاربة التي أسهمت في انهيار العملة العراقية
الزيارة المفصليّة التي قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان للعراق، واللقاء الذي عقده مع رئيس الحكومة السوداني، وتأكيد تفعيل عمل المجلس الاقتصادي المشترك بين البلدين والاستثمارات السعودية في العراق، وجّهت أيضاً رسالة طمأنة إلى الحكومات الخليجية الأخرى فحواها أنّ العراق انتقل إلى مرحلة جديدة. مرحلة يفترض أن تواكبها يخطوة عربية جدّية نحو التعاون الاقتصادي والسياسي. أمّا الجانب السياسي لهذه الزيارة، وما يتعلّق بالإرادة السعودية بتكريس دور العراق وسيطاً في الحوار بين الرياض وطهران، فيأخذ حيّزاً مهمّاً وأساسيّاً في العلاقة بين الطرفين في إطار رؤية عربية واضحة تقوم على عدم التخلّي عن العراق وتركه بعيداً عن عمقه ودوره وموقعه داخل نظام المصلحة العربية المشتركة.
يمكن توصيف القرار العربي بالانفتاح وتفعيل العلاقات مع العراق بأنّه يصبّ في سياق استكمال ما بدأه السوداني من حراك سياسي واقتصادي باتجاه الدول الأوروبية، خاصة الاتفاقيات والتفاهمات مع ألمانيا في مجالَيْ الطاقة والصناعة، وتحديداً مع شركة “سيمنز”، لبناء معامل لإنتاج الكهرباء، وشركة “مرسيدس بنز” لبناء خطّ إنتاج لشاحنات النقل الثقيل داخل العراق. وأيضاً بعد نجاح الزيارة العراقية لفرنسا والتوقيع على اتفاقية تعاون استراتيجي معلّقة منذ 2021 تفتح الطريق أمام الشركات الفرنسية للاستثمار في قطاع النفط والغاز (توتال)، واتفاقية بناء مترو بغداد المعطّلة منذ عام 2011، وشراء طائرات حربية من نوع “رافال”.
بغداد “تعبت” من إيران
ما قام ويقوم به السوداني في إعادة تعريف موقع ودور ومصالح العراق على المستويَين الإقليمي والدولي، وخطوات الانفتاح الاقتصادي والسياسي التي بدأها، تعني أنّ بغداد والقيادة السياسية بدأت تدرك الآثار السلبية لسياسات المصادرة التي مارستها بعض الدول الإقليمية، خاصة إيران، للعراق ومصالحه. فقد دفعت المعوّقات التي كانت الإدارات الأميركية تضعها أمام الاستثمارات الخارجية إلى التعاون في مجال بناء محطّات إنتاج الطاقة مع الجانب الإيراني، فكان ذلك سبباً لخضوع هذا القطاع للإرادة الإيرانية التي تسعى إلى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية من خلال ربط العراق بمصادرها الكهربائية من خلال خطَّيْ نقل رئيسيَّين واحد يذهب باتجاه الشمال والآخر باتجاه محافظة ديالى. إلى جانب التحكّم بحجم وكميّة الغاز المصدَّر المستخدم في محطّات الإنتاج العراقية واستخدامه ورقة ضغط سياسية وماليّة واقتصادية وشعبية بوجه أيّ حكومة تحاول التملّص من هذه الضغوط.
الأزمة الماليّة التي تفجّرت في الأسابيع الأخيرة، وانهيار العملة العراقية أمام الدولار الأميركي، كانا رسالة أميركية قاسية للحكومة العراقية بضرورة اتّخاذ إجراءات واضحة وحاسمة في ما يتعلّق بعمليات غسل وتهريب الأموال إلى خارج العراق. وجاءت العقوبات التي فرضتها الخزانة الأميركية على بعض البنوك العراقية لتصوّب الهدف من هذا الإجراء، وهو الحدّ من قدرة النظام الإيراني على استخدام منصّة أو نافذة بيع العملة الصعبة للبنك المركزي العراقي من أجل الحصول على “الدولار” لاستخدامه في عملية الالتفاف على العقوبات الأميركية.
سياسة تجفيف المصادر والمنابع الماليّة، التي تحصل عليها إيران باستخدام السوق العراقية، سمحت لحكومة السوداني بفتح ملفّ مكافحة التهريب والفساد الذي يعيشه القطاع المالي، ولمحاربة عمليات المضاربة التي أسهمت في انهيار العملة العراقية. الضبط والإجراءات اللذين قامت بهما الحكومة مهّدا الطريق أمام الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي جو بايدن مع السوداني وأشرك فيه الملك الأردني عبدالله الثاني، وانتهى إلى تفاهم على استراتيجية واضحة لتفعيل وتعزيز مكافحة الفساد وتهريب العملة ومنع استخدامها لصالح النظام الإيراني. وأسهم هذا التفاهم في إعادة تفعيل العمل بخطّ نقل النفط من البصرة إلى العقبة، الذي يفتح فرصاً جديدة للعراق نحو الأسواق الدولية، بالإضافة إلى الدور الذي يلعبه هذا الأنبوب في مساعدة الأردن على التغلّب على أزماته الاقتصادية.
واشنطن تدعم السوداني..
جاء الاجتماع المالي الذي استضافته العاصمة التركية قبل أسبوع بين فريق من الخزانة الأميركية ووزارة المالية والبنك المركزي العراقيَّين ليضع أسساً واضحة بين الطرفين تتعلّق بالقطاع المالي ومكافحة غسل الأموال والتهريب والفساد، وهو ما سمح للسوداني بالتأكيد بكلّ ثقة أنّ العملة الوطنية ستستعيد عافيتها بشكل حقيقي وقويّ، وقد تُرجم هذا الموقف عمليّاً بالتراجع السريع لأسعار الصرف واقترابها من العتبة التي حدّدتها الحكومة بعدما لامس الارتفاع سقف 1,750 للدولار الواحد.
على الرغم من عدم وضوح موعد الزيارة المرتقبة للسوداني للعاصمة الأميركية واشنطن، يقوم وزير الخارجية فؤاد حسين بزيارة تحضيرية في الأيام المقبلة، والمواضيع التي سيجري بحثها في إطار اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين البلدين، والمفترض أن تركّز على مسألتين أساسيّتين: أولاهما تتعلّق بآليّات وجدّية التزام بغداد في التعامل مع مسألة غسل وتهريب الدولار، وثانيتهما البحث في دور وحجم القوات الأميركية في العراق التي سبق أن أكّد السوداني حاجة العراق إليها في مجالات التعاون الاستخباراتي ومكافحة الإرهاب والتدريب والاستشارات. ومن المفترض أن تساعد نتائج هذه المباحثات والحوارات في رسم الإطار العام لزيارة السوداني وتحديد موعدها.
الأزمة الماليّة التي تفجّرت في الأسابيع الأخيرة، وانهيار العملة العراقية أمام الدولار الأميركي، كانا رسالة أميركية قاسية للحكومة العراقية
أمام كلّ هذه الخطوات التي يقوم بها السوداني باتجاه العمق العربي والفضاء الدولي، يتبادر سؤال محوري عن موقف القوى السياسية العراقية الحليفة لإيران التي لعبت دوراً أساسياً في إنتاج هذه الحكومة وتسيطر على قراراتها واستراتيجيّاتها: هل هي براغماتية ومصلحيّة؟ كي تدرك حساسيّة المرحلة التي تضعها بين خيار تقديم مصالحها واستمرارها في اللعبة السياسية والمشاركة في القرار، وبين خيار تغليب العقائدية ومصالح الحليف الإيراني على المصالح العراقية مع ما في ذلك من إمكانية الدخول في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي والمحيط العربي.
حاجة إيران إلى استقرار العراق؟
يُطرح سؤال آخر عن الموقف الإيراني، الذي يبدو أنّه يتعامل مع ما يقوم به السوداني من حراك انطلاقاً من مبدأ أنّ الاستقرار في العراق في هذه المرحلة هو حاجة إيرانية للحفاظ على الحدّ الأدنى من المصالح والإبقاء على موقع ودور حلفائها في العملية السياسية بانتظار ما ستسفر عنه معركتها في المفاوضات النووية مع الإدارة الأميركية والعقوبات الاقتصادية، أي التعامل البراغماتي مع هذه التطوّرات بما يسمح بإعادة التقاط الأنفاس والتقليل من الخسائر، خاصة في ظلّ ما تشهده علاقاتها مع الدول الأوروبية من تصعيد غير مسبوق بعد قرار البرلمان في الاتحاد الأوروبي إدراج مؤسسة حرس الثورة على لائحة المنظمات الإرهابية على خلفيّة القمع الذي مارسته ضدّ الحراك الشعبي الأخير والدور الذي تقوم به في التعاون التسليحي والعسكري مع روسيا في حربها على أوكرانيا.
إقرأ أيضاً: العراق: نافذة السوداني.. و”درس” رفيق الحريري
لا تستبعد قوى “الإطار التنسيقي”، الحليفة لإيران والشريك الأساس في السلطة العراقية والجهة المسيطرة على الحكومة، أن يكون السوداني الذي اختارته لتولّي السلطة التنفيذية يسعى إلى توظيف هذا الانفتاح والتعاون مع المحيطين الإقليمي والدولي في خدمة مخطط استقرار العراق بدلاً من مواجهة تداعيات الصراعات المفتوحة التي بدأت تتفجّر بين مكوّنات وأركان تحالف “إدارة الدولة”، أو بين أقطاب “الإطار التنسيقي” نفسه اعتراضاً على سياسات الحكومة التي يقودها والتي تسعى إلى تعزيز منطق الدولة وإبعاد العراق عن دائرة الخطر والانهيار جرّاء صراع المصالح.