العودة الممنوعة للبنان

مدة القراءة 5 د

يقع حدث اغتيال رفيق الحريري وسط التحقيق ذي الحلقات الثلاث الذي بثّته حديثاً القناة الخامسة الفرنسية تحت عنوان “التحقيق المحظور”.

تؤكّد الحلقات الثلاث (كلّ منها 50 دقيقة) أمراً في غاية الأهمّيّة: لولا إنشاء محكمة دولية خاصة بلبنان بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لَما عُرف في يوم من الأيّام من اغتال رفيق الحريري. أي من اغتال لبنان. كشفت المحكمة من نفّذ الجريمة ومن غطّاها وما الظروف المحلّيّة والإقليمية التي أحاطت بها في مرحلة تنفيذ الاغتيال وقبلها وبعدها. لم يكن اغتيال رفيق الحريري، في 14 شباط 2005، مجرّد اغتيال شخص بمقدار ما كان اغتيالاً للمحاولة اليتيمة لإعادة الحياة إلى لبنان، عن طريق إعادة إعمار بيروت، منذ اندلاع الحرب الأهليّة وحروب الآخرين على أرض لبنان في 13 نيسان من عام 1975.

 

الحريري والمرفأ

كان يمكن للتحقيق التلفزيوني الفرنسي، الذي يشرح لماذا ممنوع كشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، الذهاب إلى أبعد. كان في الإمكان تغيير العنوان إلى “العودة الممنوعة للبنان”. كان ذلك ممكناً عبر التساؤل لماذا لا يمكن الذهاب إلى معرفة سبب ذلك الإصرار لدى “حزب الله” على الإتيان بميشال عون رئيساً للجمهوريّة في 31 تشرين الأوّل 2016؟ هل من أجل أن يقطع الرجل، من بين أمور أخرى قام بها، الطريق على تحقيق دولي في هذا التفجير؟

بين تفجير موكب رفيق الحريري قبل 18 سنة وتفجير مرفأ بيروت، يكتشف اللبنانيون إلى أيّ درجة صار بلدهم في الحضيض

بين تفجير موكب رفيق الحريري قبل 18 سنة وتفجير مرفأ بيروت، يكتشف اللبنانيون إلى أيّ درجة صار بلدهم في الحضيض. يوجد قاضي التحقيق طارق البيطار الذي استفاق فجأة على ضرورة استئناف نشاطه من دون طرح السؤال الأساسي عن السبب الذي دفع ميشال عون، باكراً، إلى استبعاد أيّ تحقيق دولي.

الأكيد أنّ “حزب الله” يعترض على وجود طارق البيطار أصلاً. فالحزب يعتبر جريمة تفجير المرفأ قضاء وقدراً، لكنّ الأكيد أيضاً أنّه المستفيد الأوّل من تفادي قاضي التحقيق العدلي الذهاب إلى لبّ الموضوع. فمعنى ذلك هو التحقيق مع رئيس سابق للجمهوريّة اعترض منذ اللحظة الأولى على التحقيق الدولي الذي يستطيع وحده كشف تفاصيل الجريمة والظروف التي أحاطت بها وأبعادها.

 

البيطار والفيلم الوثائقي

لو كان طارق البيطار جدّيّاً، لكان سأل ميشال عون لماذا لم يفعل شيئاً لدى اطّلاعه، قبل أسبوعين من التفجير، وهو أمر مثبت بالصوت والصورة، على وجود كمّيات من نيترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفأ بيروت؟

لا يمكن تجاهل أهمّيّة الحلقات التلفزيونية الثلاث لجهة كشف طبيعة “حزب الله” ونشاطاته في مجالات عدّة، ابتداء من عام 2003. يشمل ذلك تجارة المخدّرات على المستوى العالمي، انطلاقاً من كولومبيا، وعلاقته بتبييض الأموال وبكلّ ما هو مرتبط بفنزويلا ورئيسها الراحل هوغو تشافيز ونائبه، السوريّ الأصل، طارق العيسمي.

من الواضح أنّ الفريق الذي عمل من أجل التوصّل إلى إنتاج الحلقات التلفزيونية الثلاث، حظي بمعلومات من فريق أميركي، تابع لوكالة مكافحة المخدّرات، ناقم على الإدارات المتلاحقة، بدءاً بإدارة باراك أوباما التي قرّرت تلبية مطالب إيران ووقف أيّ تحقيق في نشاطات “حزب الله” في مجال تهريب المخدّرات.

أوباما وإيران والحزب

تصرّفات إدارة أوباما والرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، تكشّف أهمّية “حزب الله” بالنسبة إلى إيران. يتكشّف في الوقت ذاته مدى نجاح “حزب الله” في تحويل لبنان، من خلال عهد ميشال عون وصهره جبران باسيل، إلى مجرّد بلد يتحكّم الحزب بكلّ مفاصله. غريب ذلك الفصل الذي تضمّنه التحقيق التلفزيوني الفرنسي عن زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لباريس واللقاء بينه وبين هولاند من جهة، وتوقّف أيّ تحرّك أميركي مرتبط بالتحقيق في نشاطات “حزب الله” في حقل المخدّرات وتبييض الأموال من جهة أخرى.

بعد اغتيال رفيق الحريري، في عام 2005، بقي في لبنان من يطالب بإنشاء محكمة دولية. استطاع هذا الفريق اللبناني، بدعم دولي، الدفع في اتّجاه قيام هذه المحكمة على الرغم من كلّ اعتراضات إيران وحزبها في لبنان. لم يستطع فلاديمير بوتين وقتذاك سوى تمرير بعض التحفّظات في نصّ قرار مجلس الأمن، وذلك بغية حماية النظام السوري و”حزب الله”. بعد تفجير مرفأ بيروت، صيف عام 2020، تبيّن كم صار لبنان مثل الطفل اليتيم الذي لا حول له ولا قوّة.

ببساطة شديدة، لم يعد من خيار لبناني غير خيار أن يكون ورقة إيرانيّة لا أكثر. لم يعد من وجود لنواة صلبة تسمّي الأشياء بأسمائها، ومن بينها سقوط لبنان تحت الاحتلال الإيراني؟

إقرأ أيضاً: دلالات الاستقطاب الفرنسيّ والأوروبيّ

ليست حال الضياع اللبنانيّة، وهي حال ضياع تظهر من خلال فقدان أيّ أمل بانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة من دون ضوء أخضر إيراني، سوى دليل على حجم الانتصار الذي حقّقه “حزب الله” على لبنان حيث لم يعد من وجود لثقل مسيحي في ظلّ حال التشرذم السنّيّة، ومحاولة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل المحافظة على قبيلته الصغيرة.

كان التحقيق الذي عرضته القناة الخامسة الفرنسيّة في غاية الأهمّية. لم يتضمّن معلومات مثيرة غير معروفة كما توقّع كثيرون. لكنّه قدّم عرضاً للمراحل التي مرّ بها لبنان في السنوات العشرين الأخيرة وصولاً إلى “التحقيق المحظور” في تفجير المرفأ، وهو تحقيق يرسم خريطة طريق للسقوط اللبناني في عالم قرّر اتّخاذ موقف المتفرّج من “العودة الممنوعة للبنان”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…