رسالة تبحث عن “رسول”

مدة القراءة 4 د

لم يطلق لبنان على نفسه لقب “رسول العيش المشترك”. هذا اللقب أطلقه عليه البابا يوحنّا بولس الثاني منذ عام 1995 إثر السينودس حول لبنان الذي عُقد بدعوة من البابا نفسه في الفاتيكان.

 

منبر ومعسكر ومأوى

عُرف لبنان بألقاب عدّة أخرى كانت ترمز إلى المهامّ التي أُلقيت على عاتقه، سواء كان ذلك برضاه أو غصباً عنه. من هذه الألقاب:

1- منبر العالم العربي: وهو الدور الذي مارسته الصحافة اللبنانية طوال عقود الخمسينيات والستّينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ومشهورة عبارة الرئيس الراحل شارل حلو حين قال لدى استقباله في مقرّ رئاسة الجمهورية وفد مجلس نقابة الصحافة اللبنانية: “أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان”.

2- مستشفى العالم العربي ومنتجعه: فقد شهدت الخمسينيّات والستّينيّات من القرن العشرين تحوُّل لبنان إلى مستشفى الشرق العربي، وإلى مصيف عرب المشرق. فتملّكوا في مدنه وجباله وبنوا بيوتاً وقصوراً لا تزال قائمة حتى اليوم.

3- مأوى العالم العربي: لجأ إلى لبنان الهاربون من الأنظمة السياسية الحديدية الذين وجدوا فيه ليس المأوى فقط، بل المنبر أيضاً.

لم يطلق لبنان على نفسه لقب “رسول العيش المشترك”. هذا اللقب أطلقه عليه البابا يوحنّا بولس الثاني منذ عام 1995 إثر السينودس حول لبنان الذي عُقد بدعوة من البابا نفسه في الفاتيكان

4- الملجأ والملاذ: فتح لبنان ذراعيه للمهاجرين بعقائدهم من الدول العربية، من سريان العراق وأشوريّيه وكلدانه، إلى أقباط مصر وعشائر اليمن، وقد نصّ التشريع اللبناني على منح الجنسية اللبنانية فوراً إلى كلّ شخصية دينية مسيحية تُنتخب بطريركاً لأيّ طائفة.

5- حامل رسالة العرب إلى العالم: وهي الرسالة المتعلّقة بالقضية الفلسطينية التي حملها الرئيس الأسبق سليمان فرنجية باسم القمّة العربية إلى الأمم المتحدة في نيويورك، حيث أساءت إليه عن عمد أجهزة الأمن الأميركية.

6- مسرح العمليات الفلسطينية الفدائية ضدّ إسرائيل، من جنوب لبنان ومن بقاعه، وقد تمّ تدمير هذا المسرح بالاجتياح الإسرائيلي (1982) وتهجير المقاومة الفلسطينية إلى تونس.

7- معسكر المقاومة الفلسطينية المسلّحة: وهذا ما أدّى إلى أن قصفت إسرائيل مطار بيروت، وإلى سلسلة اغتيالات إرهابية كان أخطرها عمليّة فردان التي ذهب ضحيّتها ثلاثة من قادة منظّمة التحرير. وكان اتفاق القاهرة الذي عُقد في عام 1969 حينما كانت موازنة منظّمة التحرير في لبنان تبلغ مليار دولار سنوياً في السبعينيّات من القرن الحالي.

8- جائزة ترضية لسورية: بعد انسحابها من مرتفعات الجولان (1967) حتى انسحابها من لبنان (2005).

9- وديعة في يد المقاومة الإسلامية المدعومة من إيران: بعد نجاح هذه المقاومة في دحر القوات الإسرائيلية وإبعادها إلى ما وراء الحدود الجنوبية سنة 2000، وصمودها في وجه العدوان الإسرائيلي سنة 2006. وهو لا يزال وديعة المقاومة حتى اليوم.

 

جائزة ترضية

كان لبنان كلّ هذا. لكنّه لم يكن لمرّة واحدة بلد العيش المشترك بالمعنى السامي الذي فهمه ودعا إليه البابا يوحنّا بولس الثاني. ذلك أنّه في كلّ مرّة يختلف سياسيان لبنانيان من طائفتين مختلفتين على أيّة قضيّة أو أيّ موضوع، يتحوّل اختلافهما إلى خلاف طائفي أو مذهبي، وتتعرّض الوحدة الوطنية للاهتزاز، وترتفع الدعوات إلى إعادة النظر في الدستور والدولة والكيان!

كان لبنان مسرح العمليات العسكرية المفتوح للجميع ومع الجميع وضدّ الجميع. وكان المنبر المفتوح للتهجّم على هذه الدولة وتلك، بل وحتى لغضّ النظر عن التآمر على هذه الدولة أو تلك. ولذلك غالباً ما كان صراع الآخرين في لبنان يتحوّل إلى صراع اللبنانيين حول لبنان.

أذكر أنّ رئيس تحرير جريدة “الأهرام” السابق المرحوم محمد حسنين هيكل قال مرّة: “للبنان مهمّة عربية إذا أدّاها بشكل سليم “فبها ونعمت”، أمّا إذا تآمر مع الأجنبي ضدّ هذه المهمّة، فعندئذ لا بدّ من فتح ملف حقوق المسلمين اللبنانيين في السلطة.

إقرأ أيضاً: من لبننة الصومال إلى صوملة لبنان؟!

وكان فتح ملفّ “الحقوق” هو العقاب على خطأ أو تهديد بالعقاب لمنع ارتكاب خطأ ما، وليس جزءاً من قاعدة الوفاق الوطني.

خلال هذه المسيرة، تحوّل لبنان إلى “جائزة ترضية”، مرّة لمصر عبد الناصر، ومرّة لسورية حافظ الأسد، ومرّة لمنظمة التحرير الفلسطينية في زمن ياسر عرفات، ومرّة لإسرائيل بيغن – شارون، ومرّة لإيران الخامنئي.

مرّة واحدة اكتشف لبنان نفسه عندما ردّد مع البابا يوحنّا بولس الثاني شعاره البرّاق: “لبنان الرسالة”.

لكنّ هذه الرسالة لا تزال تبحث عن رسول.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…