لو نظر فلاديمير بوتين إلى خريطة أوكرانيا وموقعها في أوروبا والدول المحيطة بها لكان فكّر مرّتين، على الأقلّ، قبل الإقدام على مغامرته العسكرية التي كشفت روسيا. كشفت الحرب الأوكرانيّة على وجه الخصوص عجز دولة مثل روسيا عن العودة إلى لعب دور القوة العظمى في عالم يعرف تماماً ما هي قدراتها الحقيقيّة وما حجم اقتصادها وطبيعة المشاكل التي يعانيها المجتمع الروسي العجوز، الذي يتناقص عدده. إنّه مجتمع غير متحمّس لأيّ حرب خارجية طويلة تستنزف العنصر الشابّ فيه.
كانت الإشارة الأولى إلى مدى معرفة الولايات المتحدة بالداخل الروسيّ تحديدها للموعد الذي سيتحرّك فيه “الجيش الأحمر” في اتجاه الأراضي الأوكرانيّة. أصرّت الإدارة الأميركيّة على أنّ بوتين سيهاجم أوكرانيا، وذلك على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها الأخير من أجل إخفاء نيّاته الحقيقيّة من دون نجاح يُذكر. على رأس وكالة الاستخبارات الأميركيّة سفير سابق في موسكو يدعى وليم بيرنز. يبدو أنّ بيرنز يعرف فلاديمير بوتين عن ظهر قلب. هذا ما كان ينقص الأوروبيين الذين أدركوا فوراً أنّهم جميعاً في حرب مع الاتّحاد الروسي. لا خيار آخر أمام أوروبا سوى هزيمة روسيا في أوكرانيا. هذا ما تجاهله الرئيس الروسي الذي لم يستوعب أنّ القارة العجوز ترفض كلّيّاً وضع مصيرها بين يديه. مثل هذا الخيار مرفوض أوروبيّاً. هذا ما يفسّر وضع دول أوروبا، وفي مقدّمها ألمانيا، نفسها في حلف وثيق مع أميركا.
أدخل بوتين الاتّحاد الروسي حرباً لم يعد يعرف كيف الخروج منها. اعتقد في البداية أنّ هذه الحرب لن تدوم سوى بضعة أيّام يقلب خلالها النظام في كييف ويقيم نظاماً جديداً موالياً لروسيا. كان جنود بوتين وضبّاطه، في أثناء الحملة العسكرية الهادفة إلى الاستيلاء على كييف، يلمّعون أوسمتهم تمهيداً للمشاركة في عرض عسكري في العاصمة الأوكرانيّة.
ما هو أسوأ من رفض فلاديمير بوتين تحمّل مسؤوليّاته هو إصراره على متابعة حرب بات معروفاً أنّها خاسرة على الرغم من كلفتها الكبيرة على العالم كلّه، خصوصاً أوروبا ودول العالم الثالث
“خديعة” بوتين واستخباراته
أخطأ الرئيس الروسي في كلّ حساباته، حتّى إنّه لم يعرف أنّ المعلومات التي زوّدته بها أجهزة الاستخبارات الروسيّة لم تكن تعكس حقيقة الوضع الأوكراني، ومن هذه الحقيقة أنّ الرئيس فولوديمير زيلينسكي يمتلك شعبيّة حقيقيّة ومحبوب من أبناء شعبه الذين انتخبوه رئيساً في عمليّة ديمقراطيّة حقيقيّة.
الأكيد أنّ فلاديمير بوتين فوجئ بالمعلومات المغلوطة التي قدّمتها له الأجهزة الروسية، تماماً مثل المعلومات المغلوطة التي قدّمتها أجهزة صدّام حسين عن الشعور الشعبي في الكويت تجاهه. كانت النتيجة أنّ بوتين لم يجد سوى أوكرانيين قليلين على استعداد للتعاون معه، في حين اكتشف صدّام صيف عام 1990 أن لا وجود لكويتيّ واحد مستعدّ للقبول به.
يبدو أنّ ثمّة قاعدة تنطبق على جميع الديكتاتوريين في العالم. لا يوجد بين مساعدي هذا الديكتاتور أو ذاك، سواء أكان فلاديمير بوتين أو بشّار الأسد أو الراحل صدّام حسين، من هو على استعداد لمواجهته بالحقيقة وبما يشعر به الناس تجاهه فعلاً. لا يريد الديكتاتور سوى سماع الأخبار والمعلومات التي يهوى سماعها والتي يريد أن تكون بمنزلة موسيقى تدغدغ أذنيه.
بدأت الحرب على أوكرانيا في 24 شباط الماضي. كان الشعب الروسي في البداية متحمّساً لتلك الحرب التي أثارت لديه كلّ الغرائز والأوهام التي وقع في أسرها. لم تمضِ أسابيع قليلة إلّا وصارت هذه الحماسة في مهبّ الريح. فرّ الروس من التجنيد. كان الاعتقاد السائد أنّ بوتين في طريقه إلى استرجاع عظمة الاتحاد السوفيتي، وأنّه سيتمكّن من إركاع الغرب عن طريق القصف العشوائي للمدن الأوكرانيّة والتهويل باستخدام السلاح النووي… وممارسة الابتزاز في مجال الطاقة في التعاطي مع أوروبا.
لا يدلّ على مدى التخبّط الروسي أكثر من ردّ فعل القيادة العسكرية على الضربة التي تلقّتها يوم رأس السنة قوات روسية كانت في نقطة تجمّع ماكيفكا في مقاطعة دونتسك الأوكرانيّة. اعترفت موسكو بمقتل 89 من عسكريّيها في الضربة الأوكرانيّة. المضحك المبكي أنّها عزت ذلك إلى استخدام جنود روس لهواتفهم المتنقّلة، وهو ما مكّن الجيش الأوكراني من تحديد مكان وجودهم. الحقّ على الجنود وليس على فلاديمير بوتين الذي أرسلهم إلى حرب في بلد آخر من دون معدّات ووسائل نقل وأسلحة في المستوى المطلوب.
ما هو أسوأ من رفض فلاديمير بوتين تحمّل مسؤوليّاته هو إصراره على متابعة حرب بات معروفاً أنّها خاسرة على الرغم من كلفتها الكبيرة على العالم كلّه، خصوصاً أوروبا ودول العالم الثالث.
العام الثاني:
بعد شهر وأسبوعين، في يوم 24 شباط المقبل، تدخل الحرب الأوكرانيّة سنتها الثانية. ثمّة ملاحظتان يصلح التوقّف عندهما:
الأولى أنّ هذه الحرب تحوّلت حرباً روسيّة – أوروبية بدعم أميركي واضح وضخم. سترسل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مدرّعات إلى أوكرانيا حيث يوجد رئيس مستعدّ للصمود والمواجهة وتحديد ما الذي يريده.
الثانية أنّ أوروبا بدأت تتكيّف مع أزمة الطاقة. لم تعد تحت رحمة الغاز الروسي. ساعدها في ذلك أنّ الشتاء ليس قاسياً إلى حدّ كبير.
يبقى سؤال في غاية البساطة: هل يُعتبر الدعم الإيراني، الذي يتمثّل في طائرات مسيّرة وصواريخ وقذائف مدفعيّة، كافياً كي يطرح فلاديمير بوتين شروطاً لإنهاء الحرب؟ يأتي في مقدّم هذه الشروط ضمّ الأراضي التي احتلّتها روسيا.
إقرأ أيضاً: روسيا وتركيا وسوريا… لعب في الوقت الضائع
الجواب أنّ أوروبا، ومن خلفها أميركا، لن تقبل بذلك. مثل هذا التكريس للاحتلال الروسي لأراضٍ أوكرانيّة سيشكّل سابقة في غاية الخطورة بالنسبة إلى كلّ دولة أوروبيّة. كلّ ما في الأمر أنّ الرئيس الروسي فَقَد ثقة أوروبا مثلما فَقَد ثقة أميركا. لا تستطيع أوروبا مكافأة المحتلّ بغضّ النظر عن التهديدات التي يطلقها. لا تستطيع أوروبا سوى مواصلة الحرب مع روسيا لأنّ العودة إلى ما كانت عليه القارّة قبل نهاية الحرب الباردة، أي إلى أوروبا الشرقية وأوروبا الغربيّة… وإلى جدار برلين، ليست خياراً مطروحاً أو مقبولاً. ومقاومة هذا الخيار تستأهل حرباً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@