لبنان والعراق اللذان يتباهى نظام الملالي بإخضاعهما لنفوذه وتحويلهما إلى ساحتين من ساحاته التي يزعم أنّ فيها “أسقط المشروع الغربي” ضدّه، تحوّلا إلى مثله ومثاله في بناء دولة يحكمها “عسكر” من خارج المؤسّسات العسكرية الشرعية، ويسيطر على اقتصادها ومؤسّساتها.
نموذج الحرس الثوريّ
نجح الحرس الثوري في إيران على مدار عقود في إنشاء كيانه المستقلّ عن الدولة وعلى حسابها. فأصبح جيشه أقوى من الجيش النظامي، وسخّر الميزانيات العسكرية له. لا وجود للشرطة بوجود الباسيج. و”المحاكم الثورية” تتقدّم على القضاء الرسمي. لا تسأل إيرانياً إلا ويشتكي من هيمنة الحرس على القطاعين العامّ والخاصّ. فقد باتت له مؤسّساته الاقتصادية المستقلّة عن اقتصاد الدولة، ويملك شركات ضخمة في المجالات كافّة تبلغ رساميلها عشرات مليارات الدولارات، فيما الشعب يعيش تحت خطّ الفقر (أكثر من 60%). الاقتصاد الموازي “أسود”، والشعب استُنزف حتى انفجر.
تأسيس شركة “المهندس” يتشابه إلى حد كبير مع الاقتصاد الموازي للحرس الثوري الذي تمثّله شركة “خاتم الأنبياء” الذراع الاقتصادي للحرس الثوري والغطاء الاقتصادي له للتهرّب من العقوبات
لبنان على خطى إيران
في لبنان، خطّ حزب الله طريقه مُتأسّياً بالحرس الثوري ونموذج الحكم خاصّته، المتمثّل في الصعود على أنقاض “الدولة”، فأمعن في تقديم ترسانته العسكرية على تلك التي يملكها الجيش اللبناني، وسيطر على أغلبية المؤسّسات الرسمية وطوّعها له. أمّا اقتصادياً فالشرح يطول على الرغم من محاولات طمس دوره وتحميل مسؤولية الفساد حصراً. لكن للتذكير، لم يكن لبنان يوماً في التاريخ الحديث غير منخور بالفساد والرشى والصفقات. المتغيّر الطارئ على الوضع المأزوم مختلف، ونقطة التحوّل كانت في عام 2018.
في ذاك العام عادت العقوبات الأميركية على إيران، إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، فعانت طهران وأذرعها ضائقة اقتصادية غير مسبوقة، وبات على الأذرع واجب “ردّ الجميل”، وبدأ كلّ ذلك على حساب الشعب اللبناني. فحين كان “الاقتصاد الأسود” يسير يداً بيد مع الاقتصاد الرسمي، كان اللبنانيون يسكتون عمّا يجري عند المعابر غير الشرعية وفي المرفأ والمطار. أمّا بعد عام 2018 فبدأت تتضارب المصالح، وكان لا بدّ للاقتصاد الأسود من أن يبدأ باستنزاف الاقتصاد الرسمي ولو كان الثمن دفن الاقتصاد اللبناني.
يضمّ الاقتصاد الأسود مؤسّسات واجهتها اجتماعية، مثل “مؤسّسة الشهداء”، “جمعيّة الإمداد الخيرية”، وشركات مقاولات وتعهّدات أشغال بنى تحتية، بالإضافة إلى تعاونيات استهلاكية وشركات تصنيع المطاط الصناعي وتجارة السيارات. وربّما يكون المؤشّر الأبرز إلى وجود الاقتصاد الموازي لحزب الله هي جمعية “القرض الحسن” التي باتت أشبه بمصرف مركزي لمنظومة الحزب الماليّة. وإلى جانب المرافق العامة (المطار والمرفأ والمعابر البرّية)، ساهم التهريب عبر المعابر غير الشرعية في دعم اقتصاد الحزب الموازي.
العراق يلتحق بركب الاقتصاد الأسود
كما في لبنان كذلك في العراق، حيث تواصل الميليشيات تأسيس اقتصادها الأسود. فقد سيطرت على المعابر وتقوم بالتهريب وتتاجر بالنفط، إضافة إلى انخراطها عبر واجهات من “رجال سياسيين” في صفقات مشبوهة. وكانت آخِرة حلقات هذا المسلسل تأسيس شركة “المهندس” (نسبة إلى أبي مهدي المهندس الذي اغتيل برفقة قاسم سليماني) المرتبطة بميليشيا الحشد الشعبي بهدف إضفاء “شرعية” على الاقتصاد الخاص. أطلق العراقيون جرس الإنذار خوفاً من أن تكون شركة “المهندس” نسخة من شركة “خاتم الأنبياء” المملوكة للحرس الثوري والتي تستحوذ على معظم قطاع الاستثمارات في إيران.
كما في لبنان كذلك في العراق، حيث تواصل الميليشيات تأسيس اقتصادها الأسود. فقد سيطرت على المعابر وتقوم بالتهريب وتتاجر بالنفط، إضافة إلى انخراطها عبر واجهات من “رجال سياسيين” في صفقات مشبوهة
بعد انتهاء الحرب على داعش بالعراق في نهاية عام 2017، حوّلت ميليشيات الحشد اهتمامها إلى الموارد الاقتصادية في المحافظات المحرَّرة بعدما سيطرت عليها عسكرياً وأمنيّاً. وقد منحت الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شيّاع السوداني موافقتها على تأسيس شركة “المهندس” لتكون غطاء “شرعياً” لأنشطة الميليشيات الاقتصادية خوفاً عليها من الملاحقة والرقابة الدوليَّين، ولكي تعزّز إيرادات هذه الميليشيات إلى جانب شركات كبرى أخرى تعمل رسمياً تحت غطاء الدولة العراقية.
وفق قانون الشركات العامة أُسّست “شركة المهندس” برأسمال مئة مليار دينار، أي ما يقارب 68.5 مليون دولار أميركي. وتؤكّد وثائق تسجيلها أنّها شركة حكومية وتفرض خضوعها للرقابة والمحاسبة من قبل هيئات مكافحة الفساد الرسمية. وبموجب عقد التأسيس يمكن لها الاستحواذ على نسبة من العقود، ولا سيّما عقود إعادة الإعمار.
في سبيل تعزيز قبضتها الاقتصادية، افتتحت ميليشيا الحشد مكاتب للسيطرة على منافذ حدودية غير شرعية، إضافة إلى مشاركتها في عقود إعادة الإعمار وفرضها الرسوم على الشركات المملوكة لآخرين مستقلّين. بالتوازي مع ذلك تسعى هذه الميليشيات سعياً حثيثاً إلى الاستثمار في مجالات النفط والغاز وعقود التوريد وغيرها، على ما يقول مصدر عراقي رفيع لـ”أساس”.
العراقيّون يتعرّفون على ما خبره اللبنانيّون
تأسيس شركة “المهندس” يتشابه إلى حد كبير مع الاقتصاد الموازي للحرس الثوري الذي تمثّله شركة “خاتم الأنبياء” الذراع الاقتصادي للحرس الثوري والغطاء الاقتصادي له للتهرّب من العقوبات. ويخشى العراقيون من أن تستحوذ هذه الشركة على معظم قطاع الاستثمارات تباعاً وتحميه بالسلاح غير الشرعي كما يحصل في لبنان واليمن وسوريا، حيث وحّدت طهران “الساحات” على الأصعدة كافّة، ولا سيّما على الصعيد الاقتصادي.
الأخطر من ذلك بالنسبة إلى العراقيين هو أن تتعاون شركة “المهندس” مع الحرس الثوري أو مع شركات مرتبطة به لتكون بوابة خلفيّة لإيران للخلاص من العقوبات، فتُفرض بسبب ذلك عقوبات على العراق “الرسمي” (لأنّ شركة “المهندس” تعتبر حكومية).
بعد شركة “منابع ثروات الجنوب العراقي” التي فرضت عليها الخزانة الأميركية عقوبات لتسهيلها بشكل سرّي وصول الحرس الثوري إلى النظام المالي العراقي تهرّباً من العقوبات، ها هي شركة “المهندس” تبصر النور في توقيت مريب ووفق استراتيجية صارت مفضوحة لدى اللبنانيين ويتعرّف عليها العراقيون اليوم.
إقرأ أيضاً: العراق يعتمد الأسلوب الإيراني في رواية “التدخّلات الخارجيّة”
لم يعد خافياً على أحد هذا الاقتصاد الموازي، الذي يتكشّف أكثر فأكثر كلّ يوم دوره في استنزاف البلاد. فمخاوف شعب العراق من الميليشيات تؤكّد للّبنانيين أنّ هذه المخاوف التي سكنتهم هي واقع تعيشه كلّ شعوب العواصم التي جاهرت إيران باحتلالها.
منذ عام 2017 تعزّز الفصائل المتنفّذة في هيئة الحشد الشعبي نفوذها إلى حدّ أنّها باتت كياناً موازياً لكيان الدولة، وأصبحت تمتلك مؤسّسات خاصة بها ومحاكم وسجوناً ومؤسّسات اقتصادية، مشكّلةً ما يشبه المؤسسات الموازية لمؤسسات الدولة العراقية، أو كما نسمّيها في لبنان: “الدويلة”.
*كاتب لبناني مقيم في دبي
لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@