منذ توقيعه اتفاق ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل، دخل لبنان مرحلة جديدة من الستاتيكو هي نموذج مختلف. العنوان الأساسي خلق مظلّة استراتيجية لديمومة حزب الله وبيئته الحاضنة وتأمينهما اجتماعياً، وتشبيك التحالفات السياسية لحماية مسيرته. وهذا لا يصحّ بلا سلسلة متكاملة من التسويات عربياً ودولياً، مرتكزها توازن جديد، وقوامها استقرار لبناني يخدم الأمن على الحدود الجنوبية. وما سوى ذلك تفاصيل وقابل للتبديل. واستثماراً لهذا الستاتيكو وقعت جريمة العاقبية لتسجيل النقاط وتحقيق بعض المكاسب في خضمّ هذه التفاهمات، وإسماع الصوت الممانع والمقاوم: “أنا شريك في الترسيم الجديد، وفي التفاهم الدولي والإقليمي، وإلّا”.
حزب الله: أنا لبنان
يقدِّم حزب الله نفسه الطرف السياسي الأوّل وجزءاً رئيسياً في هذه المعادلة. وهو يتقدّم على الدولة، على الرغم من مجاهرته الدائمة بأنّه دائماً خلفها. لكن من دون أن يخبو سعيه الحثيث إلى نيل حصّته وحصة وليّه الأصليّ في إيران. ولمّا كان المدخل العمليّ لكلّ هذه المسيرة هو الاستحقاق الدستوري الأوّل، أي ملء شغور قصر بعبدا، فقد هدّد حزب الله بلغة التوافق على طريقته: انتخاب رئيس جمهورية جديد أقبل أنا به، ويحمي المقاومة، ويحفظ توازن المصالح، وويل لمن يدع الستاتيكو ينهار.
ليس وارداً أن يقوم الرئيس ماكرون في هذه المرحلة بزيارةٍ للبنان هي أصلاً غير واردة في مواعيد الإليزيه، على عكس ما تمّ تداوله إعلامياً في الفترة الأخيرة
تُقرّ مراكز قرار سياسية ودبلوماسية وأممية، وفق معلومات “أساس”، بأنّ لحزب الله يداً وعلاقة بجريمة العاقبية، سواء مباشرة أو على نحو غير مباشر. وهذا ما سيُظهره التحقيق عاجلاً أم آجلاً. فلا شيء في الجنوب اللبناني اسمه “أهالي”، بل هنالك حزب الله فقط. وقد وصلت الرسالة في فترة مفصليّة جداً، قبل مؤتمر بغداد 2 وبعد الإحساس بتقدّم حظوظ قائد الجيش العماد جوزف عون في الرئاسة، ولو أنّ ترشيحه غير معلَن بعد. وقعت الواقعة على سليمان فرنجية لإحراجه مع المؤسّسة العسكرية في لحظة حاسمة للمحور الإيراني الذي يواجه ثورة ورديّة على ثورته السوداء.
توجد أيضاً مشاكل في العراق، على الرغم من إطباق إيران عليه والانقلاب على نتائج انتخاباته الدستورية والديمقراطية والموافقة الأميركية على ذلك، تزامناً مع سياسة خارجية أميركية سيّئة. هذا إلى جانب انخفاض النغمة “الفرنسية – الإيرانية” إلى حدّ السكون، وتقدّم المقام “الفرنسي – السعودي” بتناغمه الفعّال.
فرنسا والجيش اللبنانيّ
العلاقات الفرنسية الإيرانية في أسوأ أحوالها: استنكار فرنسا ورفضها ممارسات بلاد فارس المتمثّلة في ضلوع مسيّراتها في الحرب الأوكرانية، ودلالها الزائد وغير المبرّر في المفاوضات النووية، وقمعها ثورة نسائها وشبّانها، في وقت لم يعد باستطاعة الرئيس الأميركي جو بايدن التصرّف وإدارة ظهره رسمياً للعرب، كما فعل سلفه وشريكه الأسبق الرئيس باراك أوباما في 2015، حين وقّع الاتفاق النووي وسلّم المنطقة لإيران. فالمنطقة العربية اليوم للعرب فقط، ولا حلّ لبنانياً إلا عبر البيان الثلاثي الصادر من نيويورك نهاية العام الماضي عن فرنسا وأميركا والسعودية. وهو يطالب بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان، وبحماية اتفاق الطائف.
لذلك لن تمرّ جريمة العاقبية ضدّ اليونيفيل مرور الكرام، ولن يتمّ تجاوزها حتى لو جرت “ضبضبتها” على الطريقة اللبنانية، كجريمة اغتيال النقيب الطيّار سامر حنّا على يد مقاتلي حزب الله في طائرته جنوب لبنان، وحتى لو تعاون حزب الله وسلّم بعضاً من ناصبي الكمين الجديد الذي راح ضحيته جندي إيرلندي شاب.
لكنّ الأولوية تظلّ الحفاظ على الستاتيكو واستقرار لبنان والعمل على نسج شباك الاتفاق من خلال المؤسّسات والتسويات والتعاون البارد. لذا كانت زيارة وزير الدفاع الفرنسي التفقّدية والاستطلاعية للحدود البحرية لمتابعة الترسيم، وتظهّرت المبادرة الفرنسية بتكليف من الرئيس إيمانويل ماكرون من أجل “صياغة برنامج تعاون عسكري مع لبنان”، أي مع الجيش اللبناني، في سياق الاستمرار بدعمه والتنسيق معه، والاعتراف بدوره الكبير الذي يرسي معالم الدولة ويضمن الاستقرار في البلد وتطبيق القرارات الدولية، ويساعد اليونيفيل في مهامّها بعد القرار رقم 2650/2022 بتوسيع صلاحياتها وحقّها في التجوّل دون مرافقة الجيش اللبناني، ومن أجل منع تكرار حادثة العاقبية المشبوهة، مع العلم أنّ هناك خوفاً فرنسياً وأوروبياً وأممياً من احتمال أن تكون الضحيّة التالية لبنانية.
يقدِّم حزب الله نفسه الطرف السياسي الأوّل وجزءاً رئيسياً في هذه المعادلة. وهو يتقدّم على الدولة، على الرغم من مجاهرته الدائمة بأنّه دائماً خلفها
زيارة شكليّة
ليس وارداً أن يقوم الرئيس ماكرون في هذه المرحلة بزيارةٍ للبنان هي أصلاً غير واردة في مواعيد الإليزيه، على عكس ما تمّ تداوله إعلامياً في الفترة الأخيرة. لذا لن يحصل على المستوى السياسي أيّ خرق جديد في الملف اللبناني، لكن درجت العادة أن تحرص فرنسا والدول الأوروبية المشارِكة في اليونيفيل على القيام بزيارة جنودها في إطار تقليد سنوي.
تلعب فرنسا الماكرونية دوراً في لبنان يحاول حلّ مآزقه ومشاكله. وهي تعزف على أوتار مختلفة سعودية وإيرانية لمساعدته على تخطّي أزماته الحالية المتجسّدة في الشغور الرئاسي والتنفيذي وردم ثقب تصريف الأعمال المقلق لوضع البلد على الطريق السليم، ولو غير السريع، نحو المباشرة في خطة التعافي والإصلاحات المالية والاقتصادية والإدارية. لكنّ هذه المحاولات فاقدة المفعول حتى الآن، وذلك بسبب خلافات دولية عنوانها المصالح والأولويات. لذا ستكون انطلاقة الربع الأول من هذه السنة في لبنان فترة مصيرية وحسّاسة أشبه ما تكون بالجمر تحت الرماد في انتظار الولادة القيصرية للتوافقات الضامنة لاتفاق الترسيم الذي سيكون المدخل لأيّ تسوية.
قد يقوم مسؤول فرنسي بزيارة للبنان ستكون محدودة الأثر سياسياً: حضور دولي معتاد أولويّته الأمن والمحافظة على التوازن. وقد تنطوي الزيارة على 4 أبعاد:
– زيارة بطعم الترضية و”الجنريك”، أي شكليّة وبروتوكولية من دون أيّ تغيير حقيقي، وذلك تعويضاً عن زيارة الرئيس ماكرون أو حتى رئيسة الوزراء إليزابيت بورن.
– حضور صفريّ لناحية الفعّالية الدبلوماسية، ستكون له دوافع أمنيّة ودفاعية منخفضة المستوى على صعيد إنتاج تسوية، وإلّا لكانت الزائرة رئيسة الدبلوماسية الفرنسية وزيرة الخارجية كاترين كولونا.
إقرأ أيضاً: 5 رسائل في “كمين العاقبية”
– جولة فرنسية ذات دوافع ارتيابية وأمنيّة لمعايدة القوات الدولية العاملة في لبنان.
– دعم لوجيستي أوروبي لليونيفيل وقياداتها من أصحاب الخوذ الزرقاء.