ربّما كان الذوق العام من المصطلحات الملغّزة والفضفاضة. مع ذلك فهو من أشهر ما يجري على ألسنة الناس من مصطلحات. ولذا ستجده شائعاً وربّما دارجاً بين العامّة.
لا أحد من الناس يتردّد في طرحه عندما تكون المسألة شديدة الغموض والإلغاز. فإذا ما عرض للمجتمع أمر ما استهجنه البعض فإنّه سرعان ما يقول إنّ هذا الشيء قد تعدّى على الذوق أو إنّ هذا الشخص قد تعدّى على الذوق العام. فإذا ما سألت المتحدّث: “ماذا تعني بالذوق العامّ؟”. ربّما وجدته متردّداً في الإجابة أو غير قادر على تعريف “الذوق العام” تعريفاً جامعاً مانعاً كما يقول المناطقة.
السؤال الذي أراه متردّداً على شفتَيْ القارىء، حائراً في جنبات عقله، هامساً به لنفسه، هو التالي: ما الداعي للحديث عن الذوق العامّ في هذا التوقيت؟
ربّما كان الذوق العام من المصطلحات الملغّزة والفضفاضة. مع ذلك فهو من أشهر ما يجري على ألسنة الناس من مصطلحات. ولذا ستجده شائعاً وربّما دارجاً بين العامّة
عمرو موسى “يفتح الكلام”
الجواب سيكون متسلسلاً للوصول إلى أصل الفكرة:
بالأمس القريب استمعت للسياسي المخضرم السيّد عمرو موسى، الذي كان وزيراً للخارجية المصرية، ثمّ أميناً عامّاً لجامعة الدول العربية، ثمّ اختير ليرأس لجنة الخمسين التي كانت مكلّفة بصياغة دستور 2014. استمع إليه المصريون وهو يلقي كلمة في مؤتمر الحوار الوطني الذي تنظّمه الإدارة السياسية المصرية من أجل مناقشة القضايا التي تشغل الشارع المصري والوصول إلى ما يشبه التوافق عليها وإيجاد الحلول المناسبة. وعندما وقف الرجل متحدّثاً استوقف البعض فقرة في حديثه الذي يسعى من خلاله لرسم خارطة طريق للوطن . وهي الفقرة التي ذكرها بعد عدّة أسئلة طرحها باعتباره مواطناً مصرياً ينقل نبض الشارع المصري.
قال عمرو موسى إنّ “العشوائيات موجودة في كلّ قرية من قرى مصر وفي كلّ مدينة من مدن مصر”. ثمّ قال وهو يستعرض إنجازات المرحلة الماضية إنّ الدولة “شرعت في معالجة ملف العشوائية”. لكنّه استطرد قائلاً: “إنّما العشوائية هي عشوائية القبح والاعتداء على جمال المدن.. وهو ما يجب أن يتوقّف”. ثمّ عقّب قائلاً إنّ “جمال القرى والمدن من حسن إدارة الأمور”.
جمال المدن.. وقبح العشوائيّات؟
ربّما لم يلتفت كثيرون إلى هذه الفقرة من حديث الرجل. لكنّها جديرة بالتوقّف عندها، وهي تثير أسئلة عدّة:
– ما الذي يجعل سياسياً مخضرماً مثل السيّد عمرو موسى يعرّج على مشكلة العشوائيات ثمّ يؤكّد أنّ “جمال القرى والمدن من حسن إدارة الأمور”؟
– هل يرى الرجل أنّ الإنجازات الحقيقية ليست بكمّها وإنّما بكيفها؟ وهو سأل في حديثه: “أين فقه الأولويات في اختيار المشروعات؟ أين مبادىء الشفافيّة؟ ما هي حالة الديون المتراكمة؟”.
– على من يلقي باللائمة في قضية العشوائيات؟ على الحكومة أم على عامّة الناس؟
– هل يعتبر الجمال، جمال المدن والقرى، من أسباب سعادة الناس ثمّ راحتهم ورضائهم عن حكومتهم وإدارة بلادهم؟
– هل من يعمد إلى تشويه جمال المدن والقرى يُعدّ مجرماً؟
– أيّ تهمة تلك التي يمكن أن يحاكَم بها مرتكب جريمة التشويه والاعتداء على جمال المدن والقرى؟
– هل كان يقصد بـ”عشوائية القبح ” ذلك القبح المادّي متمثّلاً في واجهات البنايات وعدم تناسقها؟ هل كان يقصد بـ”قبح المدن وعشوائية القبح” سوء تخطيط المدن؟
– هل نفهم من حديثه عن جمال المدن والقرى الجانب المادّي أيضاً من حيث حسن التنسيق واتساع الشوارع والحرص على اختيار الأماكن التي تصلح لإنشاء الجسور؟
يمكن أن نمدّ خطّ الأسئلة على استقامته، ونسأل مع السائلين:
– هل المدن محض بنايات وجسور وشوارع وأعمدة إنارة؟ أم هي أيضاً بشر يعيشون بسلوكيات قد تبدو فيها العشوائية أكبر حجماً وأشدّ خطراً من عشوائية الحوائط والجسور؟
– هل المدن كما يظنّ البعض بلا قلب وليس لها نبض أم للمدن أرواح تربّت بها على ساكنيها؟
تقف الحكومات التي تضع خططاً للتخلّص من العشوائية فإذا بها تعيث في المدن فساداً أكبر. ويقف سكّان المدن، الذين من فرط حبّهم للمدن يكتظّون فيها في غير نظام أو غير آبهين لجمال معتدى عليه
“دفن” روح المدن.. وقبر طه حسين
تبكي المدن إذ يُنتزع منها التاريخ متمثّلاً في بناياتها. وإذا تهدّمت فيها أضرحة الذين خلّدوا ذكراها فيهم وخلّدوا ذكراهم فيها، من طه حسين إلى غيره، تتألّم المدن.
المدن إذ ترى العنف بين سكّانها سلوكاً عشوائياً عامّاً تئنّ وتصرخ.
المدن إذ تتنفّس عوادم السيارات التي لا تهدأ ليل نهار تسعل.
المدن إذ تشتمّ رائحة مخلّفات أهلها تتأذّى وتكاد تتقيّأ.
المدن إذ يُقتلع منها الشجر النادر تستحيل مدناً ثكلى.
والمدن حين يُحبَسُ أبناؤها احتياطياً تتألّم. وهنا قال عمرو موسى: “كان الناس يتساءلون عن مصير المحبوسين احتياطياً، وآن الأوان للتعامل المباشر والفوري والشامل مع هذا الملفّ لنغلقه نهائياً”. وقد قوطع بالتصفيق طويلاً.
ربّما كانت الغنائية الحزينة في الأسطر الماضية خروجاً عن نصّ العشوائية المعتاد وتوسيعاً لمعنى العشوائية كي يقف الجميع عند مسؤوليّاته.
تقف الحكومات التي تضع خططاً للتخلّص من العشوائية فإذا بها تعيث في المدن فساداً أكبر. ويقف سكّان المدن، الذين من فرط حبّهم للمدن يكتظّون فيها في غير نظام أو غير آبهين لجمال معتدى عليه.
إنّ المجتمعات إذ تبني بناياتها وعمائرها وتشقّ طرقها وتنشئ جسورها وتزرع أعمدة إنارتها إنّما تفعل ذلك جنباً إلى جنب بناء السلوك ووضع الأعراف وسنّ القوانين التي من شأنها الحفاظ على منجزات الحكومات المختلفة بحيث يصير من يتعدّى على تلك الأعراف وينتهك تلك الأخلاق خارجاً عن سياق الآداب العامّة التي أقرّها واعترف بها المجتمع فصارت عُرفاً، وخارجاً أيضاً عن النظام العامّ الذي أقرّه القانون.
ربّما يصير الآن من اليسير معرفة التهمة التي يمكننا بها محاكمة الخارجين عن العرف وعن القانون، وهي أنّهم “المتعدّون على الذوق العامّ”.
هنا يبدو المصطلح أكثر تحرّراً ووضوحاً. فالذوق العامّ هو الضلع الثالث والمهمّ في مثلّثٍ كبيرٍ أضلاعُه هي الآداب العامّة والنظام العامّ والذوق العامّ.
على ذلك يمكن القول بضمير مستريح إنّ الذوق العامّ لم يعد مصطلحاً فضفاضاً، وإنّما صار هو السلوك الراقي الذي يسلكه كلّ من يسكن مكاناً ما في قرية أو مدينة أو نجع أو شارع أو حارة، ويقيم في منزل أو مسجد أو كنيسة أو مدرسة أو هيئة أو مؤسّسة، بحيث يكون هذا السلوك متّسقاً مع الآداب العامة المتّكئة على العرف، ومتّسقاً أيضاً مع النظام العامّ المتّكئ على القانون.
العشوائيات لا تقتصر على المدن والقرى التي بُنيت بالجهود الذاتية وتفتقر إلى الخدمات والاهتمام والنظام، وإنّما المعنى الحقيقي للعشوائيات هو في تفشّي القبح بمظاهر شتّى في أرجاء الوطن
16 مليون مصري في العشوائيات
على ذلك يكون كلّ من يأتي سلوكاً، مادّياً كان أو معنوياً، غير موافق للعرف والنظام، يكون متعدّياً على الذوق العامّ.
هنا يطيب لي أن أعود إلى السيّد عمرو موسى الذي قال في كلمته ناصحاً حكومة بلاده إنّ “جمال القرى والمدن من حسن إدارة الأمور”.
كما لو أنّه أراد أن يدقّ ناقوس خطر، أو أن يقول إنّ القبح مدعاة للعشوائية والعشوائية مدعاة للفوضى والفوضى تنذر بعواقب وخيمة، وكأنّه يقدّم نصيحة من ذهب مفادها أنّه “في مراعاة الجمال يكمن الحلّ”.
وكأنّي به يقول: إذا كانت العشوائية مرضاً قد تمدّد متعاقباً بتعاقب الحكّم والحكومات فقد آن الأوان لنتخلّص من هذه العشوائيات.
كأنّه أراد القول إنّ النظام في عقده الأول للحكم، وإن استطاع معالجة بعض العشوائيات فإنّ المشوار ما يزال طويلاً. والدليل على ذلك قوله إنّ العشوائية ضاربة أطنابها في كلّ بلدة وقرية ومدينة. فيكفي أن نعرف أنّ المناطق العشوائية تمثّل ما يقرب من 30% من المناطق السكنية في مصر، إذ يبلغ عددها ما يقرب من 1,105 مناطق، ويعيش فيها أكثر من 16 مليوناً من البشر. ولذلك ليس غريباً أن تكون مصر صاحبة أكبر ثلاثة من المناطق العشوائية الثلاثين على مستوى العالم. وهذه المناطق على وجه التحديد هي منشية ناصر وعزبة الهجانة ودار السلام.
3 مستويات من “الذوق العام”
السيّد عمرو موسى في فقرته المكثّفة التي حاولت تسليط الضوء على هذه المسألة يذكر ثلاثة مستويات من المشكلة عندما يحدّدها على هذا النحو:
1- إنّ العشوائيات ظاهرة للعيان في كلّ قرية ونجع ومدينة، وهي متفرّقة في أرجاء الوطن. وهو هنا يذكّر المسؤولين بأنّ المشكلة ما تزال قائمة.
2- إنّ العشوائيات لا تقتصر على المدن والقرى التي بُنيت بالجهود الذاتية وتفتقر إلى الخدمات والاهتمام والنظام، وإنّما المعنى الحقيقي للعشوائيات هو في تفشّي القبح بمظاهر شتّى في أرجاء الوطن. وإنّ القبح المعنوي لا يقلّ خطورة عن القبح المادّي، وإنّ كلّ اعتداء على جمال المدن إنّما هو قبح وعشوائية أيّاً ما كان هذا القبح وأيّاً من كان فاعله.
إقرأ أيضاً: كليوباترا: “عنصريّة إفريقيّة”… ضدّ البيض؟
3- إنّ جمال المدن والقرى الذي لم تصل إليه يد القبح والعشوائية إنّما هو من حسن إدارة الأمور. وهو هنا يخاطب الحكومة والنظام حاثّاً إيّاهما على مراعاة الجمال وهم يقومون بالتطوير. فالجَمال مسؤولية كلّ مطوّر، وليس الأمر بعدد الشوارع التي مُهّدت ولا بعدد الجسور التي شُيّدت ولا بعدد الوحدات التي بُنيت، بل يتعلّق الأمر بضرورة مراعاة الجمال أثناء الإنشاء وأثناء التطوير. لأنّ جمال المدن هو الرسالة التي يبعث بها المصريون صورة بلادهم للعالم أجمع. فمصر حضارة فرعونية راعت في كلّ آثارها جمالاً فائقاً أذهل العالم قديمه وحديثه.
فهل كان الرجل يمرّر رسالة مفادها: لا ينبغي للحكومات والأنظمة أن تكون أوّل متعدٍّ على الذوق العامّ؟
*كاتب مصري، عضو اتحاد كتّاب مصر، وعضو مجلس إدارة نادي القصة المصري. صدر له العديد من المجموعات القصصية.