يمكن اختصار الأزمة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وفنزويلا بمعادلة ذات وجهين: يتمثّل الوجّه الأوّل في أنّ الولايات المتّحدة هي أكثر دولة استهلاكاً للنفط في العالم، وفنزويلا هي أغنى دولة باحتياط النفط في العالم. يتمثّل الوجه الثاني في أنّ الولايات المتّحدة تعتبر فنزويلا جزءاً من حديقتها الخلفيّة التي تشمل كلّ دول أميركا الجنوبيّة. غير أنّ فنزويلا متحالفة مع الصين والاتّحاد الروسيّ، وتعتبر الولايات المتّحدة دولة معادية لها.
مرّت كوبا في التجربة ذاتها. جاعت ولم تستسلم. صمدت في وجه الجبروت الأميركيّ إلى حدّ استدراج الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفيتيّ (السابق) إلى خطر المواجهة النوويّة (نيكيتا خروتشوف – جون كينيدي). نجا العالم في اللحظة الأخيرة من خطر تلك المواجهة.
يواجه العالم الآن نسخة جديدة منقّحة عنها. إلّا أنّ الاتّحاد الروسيّ ليس الاتّحاد السوفيتيّ، ولا الرئيس الأميركيّ الحاليّ دونالد ترامب هو الرئيس الأسبق جون كينيدي. كذلك الرئيس الفنزويليّ نيكولاس مادورو ليس الرئيس الكوبيّ الأسبق فيديل كاسترو. تغيّر اللاعبون، إلّا أنّ اللعبة مستمرّة في ظروف مختلفة لكن أشدّ تعقيداً.
عام 1973 تعلّمت الولايات المتّحدة درساً لن تنساه من الحرب العربيّة – الإسرائيليّة. في ذلك الوقت قرّرت الدول العربيّة فرض حظر تصدير النفط إلى الولايات المتّحدة ردّاً على دعمها لإسرائيل عسكريّاً وسياسيّاً. أدّى الحظر العربيّ إلى انفجار أزمة نفط خانقة في الولايات المتّحدة تركت بصماتها العميقة على قطاعات الإنتاج في الصناعة والنقل. سجّلت أسعار الوقود ارتفاعاً غير مسبوق فجّر تململاً شعبيّاً واسع النطاق.
لتجنّب أزمة مماثلة في المستقبل قرّرت الولايات المتّحدة تعزيز مخزونها الاحتياطيّ من النفط الخام. من أجل ذلك عملت على حفر أربع آبار للتخزين في ولايتَي تكساس ولويزيانا يبلغ عمق كلّ منهما أكثر من ناطحتَي سحاب. وهو أكبر موقع لتخزين النفط في العالم، إذ تبلغ سعتهما 714 مليون برميل.
يشكّل النفط شريان الحياة الاقتصاديّة في الولايات المتّحدة وفي العالم. مع تصاعد نسبة الاستهلاك الداخليّ الأميركيّ من النفط
استنزاف المخزون الاستراتيجيّ
استنزفت الولايات المتّحدة جزءاً كبيراً من هذا المخزون الاستراتيجيّ لتلبية حاجات الأسواق الأوروبيّة تعويضاً لها عن مقاطعة النفط الروسيّ ردّاً على الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة. تمّ سحب 180 مليون برميل من هذا المخزون الاستراتيجيّ في عهد الرئيس جو بايدن لتغطية العجز في أوروبا.
من هنا السؤال: هل التهديد بحرب أميركيّة على فنزويلا الذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب يستهدف، ولو بصورة غير مباشرة، وضع اليد على النفط الفنزويليّ من خلال تغيير النظام وصاحب النظام في كراكاس؟!
يشكّل النفط شريان الحياة الاقتصاديّة في الولايات المتّحدة وفي العالم. مع تصاعد نسبة الاستهلاك الداخليّ الأميركيّ من النفط، ومع استمرار المقاطعة الأوروبيّة للنفط الروسيّ، يتراجع المخزون الاستراتيجيّ الأميركيّ بشكل مثير للقلق، الأمر الذي يرسم علامة استفهام عن دور الحاجة إلى النفط الفنزويليّ في الأزمة التي تزداد حدّة عسكريّاً بين واشنطن وكاراكاس.
لا يستطيع الرئيس الأميركي ترامب أن يُقنع حلفاءه الأوروبيّين (وغيرهم) بمقاطعة النفط الروسيّ إذا لم يوفّر لهم البديل. البديل حتّى اليوم كان جزء منه من المخزون الاستراتيجيّ الأميركيّ. لكنّ الخوف من استهلاك معظم هذا المخزون حمل الرئيس ترامب على البحث عن البديل. هل يكون النفط الفنزويليّ هو البديل؟ هل الحاجة إلى هذا النفط هي الشرارة التي فجّرت الأزمة؟
أدّى هذا الأمر إلى استصدار قانون جديد أقرّه الكونغرس ينصّ على عدم سحب برميل واحد من هذا المخزون الاستراتيجيّ ما لم تتوفّر بدائل تغطّي هذا النقص. من هذه البدائل منح امتيازات جديدة للتنقيب عن النفط داخل الولايات المتّحدة أو في البحار.
استيراد النفط الفنزويليّ لا يغني فنزويلا فقط، ولا يعزّز من حكم رئيسها مادورو فقط، لكنّه يشكّل عبئاً على الاقتصاد الأميركيّ
الحاجة إلى النّفط الفنزويليّ
مع ذلك، من الواضح أنّ المشكلة ليست في المخدّرات التي تُهرَّب من أو عبر فنزويلا إلى الولايات المتّحدة. تكمن المشكلة في النفط الفنزويليّ الذي تقاطعه الولايات المتّحدة مع حاجتها إليه.
إنّ استيراد النفط الفنزويليّ لا يغني فنزويلا فقط، ولا يعزّز من حكم رئيسها مادورو فقط، لكنّه يشكّل عبئاً على الاقتصاد الأميركيّ إذا ما فرضت فنزويلا أسعار السوق على صادراتها كأيّ دولة أخرى عضو في منظّمة أوبيك.
إقرأ أيضاً: أميركا – الصين: هل يتعلّم ترامب من نيكسون؟
من هنا مشروع الرئيس ترامب في فنزويلا يستهدف إعادة هذه الدولة الغنيّة بالنفط جزءاً من الحديقة الخلفيّة للولايات المتّحدة.
فشلت هذه السياسة في كوبا، ولم تنجح حتّى الآن في فنزويلا. ماذا ستكون الخطّة التالية؟!
