ما اعتقده كثيرون نهايةً في شرم الشيخ، تحوّل في إسطنبول إلى بداية جديدة لرسم الموقف الإسلامي من خطة ترامب الثانية لغزة. فاجتماع وزراء الخارجية في مؤتمر إسطنبول السباعي لم يكن محطة بروتوكولية، بل تحوّل إلى منصة سياسية وضعت على الطاولة “ورقة ردّ” متكاملة على المقترح الأميركي الجديد، والمواقف المحددة حيال تل أبيب، والتي حملت بين سطورها تحوّلًا واضحًا من الممانعة إلى المبادرة، ومن ردّ الفعل إلى الفعل.
واشنطن، التي ظنّت أن النقاشات توقفت عند حدود شرم الشيخ، وجدت نفسها أمام موقف إسلامي منسّق في إسطنبول، أكثر واقعية واستعدادًا للتعامل مع التفاصيل، ويمتلك رؤية بديلة لمسار إدارة غزة ومستقبل الحل الفلسطيني برمّته. الطاولة الإسلامية في إسطنبول كانت أكثر استعدادًا وحماسًا، إذ فاجأت الشريك الأميركي بورقة ردّ متكاملة، تضمّنت الأبعاد السياسية والميدانية والقانونية للمسار الجديد. هكذا بدا المشهد وكأنه لا يقوم على “ردّ فعل” فحسب، بل على مبادرة مقابلة تسعى إلى رسم ملامح الحل الفلسطيني المقبل، مع اقتراح آليات رقابة ولجان متابعة تضمن تنفيذ المرحلة الثانية من الخطة.
تفاهمات منسّقة
سياسيًا، ركّز الاجتماع السباعي في إسطنبول، والذي حضره وزراء خارجية تركيا والسعودية وقطر والإمارات والأردن وباكستان وإندونيسيا، على تسريع جهود المصالحة الفلسطينية، وتسليم إدارة غزة إلى السلطة الوطنية ضمن تفاهمات فلسطينية – فلسطينية برعاية إسلامية. وأنّ أي تسليم إداري للقطاع يجب أن يُترجم على الأرض حلًّا عادلًا ودائمًا للقضية الفلسطينية.
ما اعتقده كثيرون نهايةً في شرم الشيخ، تحوّل في إسطنبول إلى بداية جديدة لرسم الموقف الإسلامي من خطة ترامب الثانية لغزة
ميدانيًا، برزت مجددًا معادلة الدورين التركي والقطري بوصفهما ضامنين لإقناع حركة حماس بالامتثال لمقتضيات المرحلة الثانية، في مقابل ضمانات أميركية تُلزم إسرائيل بالشروع في تنفيذ هذه المرحلة من خطة ترامب. أنقرة والدوحة تتحركان ضمن تفاهمات منسّقة مع القاهرة والرياض لتجنّب أي تصادم في الأدوار حول مستقبل القطاع.
قانونيًا ودوليًا، شددت الدول الإسلامية على ضرورة الإشارة إلى قرارات الأمم المتحدة السابقة في أي قرار جديد سيصدر عن مجلس الأمن بشأن عمل القوة الدولية المزمع إرسالها إلى غزة، بما في ذلك الإشارة الصريحة إلى حلّ الدولتين. كما أكدت على أهمية حصول المسودة الأميركية على دعم الدول الإسلامية قبل طرح القرار على الدول الدائمة العضوية، لتجنّب أي استخدام محتمل لحق النقض.
تضمّن الردّ الإسلامي خطوات واضحة باتجاه زيادة الحزم تجاه تل أبيب التي تسعى للضغط على الجانب الفلسطيني عبر الوسائل الأميركية، وتسريع جهود المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية لتعزيز تمثيل فلسطين دوليًا، وإدارة شؤون غزة من قبل الفلسطينيين أنفسهم، مع رفض أي نظام وصاية أو انتداب يعيق الحل العادل والدائم للقضية الفلسطينية.
تسريبات تركية تحدثت عن تقديم إسرائيل ضمانات محددة للجانب الأميركي، تقضي بتجاوز المرحلة الأولى من خطة ترامب والانتقال مباشرة إلى المرحلة الثانية، مقابل تعهدات فلسطينية قدّمتها حماس للجانب التركي – القطري لتسهيل تفعيل المسار الجديد. الحديث يدور عن نقل فريق عمل الرئيس الأميركي رسائل إسرائيلية جديدة إلى الدول الإسلامية الفاعلة، مصحوبة بتصوّرها حول مسودة القرار الأممي الذي ستقدّمه واشنطن بشأن الغطاء القانوني للقوة الدولية المزمع إرسالها إلى غزة، مع تحديد مدة تواجدها وتركيبتها ومهامها.
عندما أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أنه ناقش مع وفد حماس مسائل المرحلة الانتقالية في غزة، سواء على الصعيد الميداني أو السياسي، قبل ساعات من اجتماع إسطنبول، كانت رسالته مزدوجة: الأولى إلى نتنياهو، ومفادها أن واشنطن ما زالت تعتمد على الدور التركي في الملف الفلسطيني، والثانية إلى واشنطن، أن الوصول إلى تفاهمات يحتاج إلى وضع تفاصيل المرحلة الثانية بشفافية ووضوح، لأنّ الهدف ليس تلبية المطالب الإسرائيلية، بل صياغة اتفاقية توافقية ترضي جميع الأطراف.
الرسائل الموجّهة إلى إسرائيل وواشنطن عبر مؤتمر إسطنبول تُساهم في رسم معالم مسار جديد يجعل المرحلة المقبلة مفتوحة على تحولات حقيقية في مستقبل غزة والملف الفلسطيني برمّته
رضوخ نتنياهو؟
مهمة ترامب، الذي يصرّ على تواجد تركيا أمام الطاولة في نيويورك وشرم الشيخ، صعبة ومعقّدة. هو يحاول إرضاء الجميع، لكن مسألة مشاركة الوحدات التركية في عمل هذه القوات، قد تُعالج في إطار القرار الأممي الذي سيصدر، أو من خلال منح الجانب التركي دورًا أوسع في الشق السياسي والاقتصادي والإنساني ومشاريع الإعمار.
حصول تركيا على ضمانات بأنّ القوة الدولية ستحمل صلاحيات التدخّل المباشر لتنفيذ الاتفاقيات، وعدم ترك إسرائيل تتلاعب بالقوة ومهامها كما تشاء، قد يزيل العقبات بين أنقرة وتل أبيب. فخطة ترامب أمام مجلس الأمن قد ترتدّ عليه إذا ما جوبهت بالرفض الروسي أو الصيني أو حتى الأوروبي، خصوصًا عندما تتجاهل مسألة التذكير بالقرارات الأممية المتعلقة بالملف الفلسطيني.
سيحاول ترامب بذل المزيد من جهود التقريب بين أنقرة وتل أبيب لتجاوز العقبات التي تعترض طريق خطته، وهي تركية – إسرائيلية بقدر ما هي إسرائيلية – فلسطينية. الجانبان التركي والإسرائيلي سيعدّلان في مواقعهما في نهاية المطاف عند تسريع عملية الانتقال إلى مراحل جديدة في خطة غزة، لحماية دورهما ومصالحهما الإقليمية أولًا، ولأنّ قواعد اللعبة وخرائط التحالفات ستتغيّر ثانيًا.
إقرأ أيضاً: أنقرة وتل أبيب: خصومة “اليوم التّالي” في غزّة!
فعلت الإدارة الأميركية، التي تركت إسرائيل تهاجم الدوحة، ما يمكن وصفه بعملية “الجلد الذاتي”، لكنها في الوقت نفسه لم تتخلَّ عن نتنياهو. الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة يتطلب أكثر من مجرد الضغط على نتنياهو، بل “جلده” أيضًا.
تذهب الاحتمالات باتجاه رضوخ نتنياهو للضغوط الأميركية في مسألة دور الأمم المتحدة، الذي تُصرّ عليه الدول الإسلامية الثماني إلى جانب بقية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو ما يقوّي يد واشنطن في محادثاتها مع تل أبيب، ويحدّ من قدرة إسرائيل على المناورة السياسية في المرحلة المقبلة.
الرسائل الموجّهة إلى إسرائيل وواشنطن عبر مؤتمر إسطنبول تُساهم في رسم معالم مسار جديد يجعل المرحلة المقبلة مفتوحة على تحولات حقيقية في مستقبل غزة والملف الفلسطيني برمّته.
لمتابعة الكاتب على X:
