كأنّ العالم اليوم يسير على إيقاع رقصةٍ لا يعرف أحدٌ هل كانت ستنتهي بانحناءةٍ ختاميّةٍ أنيقة أم بانزلاقٍ جماعيٍّ إلى الهاوية.
هذا الانطباع المتداخل بين الهزل والجدّ، بين صورة القوّة ومشهد العبث، هو ما أفرزته موجة الضجيج التي رافقت إعلان الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب رغبته في إقامة صالةٍ للرقص داخل البيت الأبيض، وهذا ضجيجٌ بدا وكأنّه صرخةُ احتجاجٍ على كسر الصورة التقليديّة للمكان الذي لطالما حمل رمزيّة الصرامة والهيبة، باعتباره مركز صناعة القرار الدوليّ.
لكنّ ما فات كثيرين أنّ هذا السلوك لم يهبط من فراغ، بل هو وجهٌ آخر لعالمٍ اختار الرقص على حافة أزماته بدل أن يواجهها بعقلٍ باردٍ ومسؤوليّةٍ رصينة.
كأنّ العالم اليوم يسير على إيقاع رقصةٍ لا يعرف أحدٌ هل كانت ستنتهي بانحناءةٍ ختاميّةٍ أنيقة أم بانزلاقٍ جماعيٍّ إلى الهاوية
الضّوضاء المنظَّمة؟
في هذه اللحظة التي يعلو فيها صخب الموسيقى المصطنعة حول البيت الأبيض، يصعب تجاهل أنّ ترامب نفسه بات جزءاً من جوقةٍ سياسيّةٍ عالميّةٍ تفضّل العزف على أوتار الهروب من الحقائق بدل التوقّف أمامها. الرجل الذي لا يتردّد في كسر القواعد، يعرف تماماً كيف يوظّف الرمز لصناعة المشهد، مشهدٍ يقول إنّ قصر الرئاسة لم يعد فضاءً للقرارات الثقيلة فقط، بل مسرح يتقاطع فيه السياسيّ بالاستعراضيّ، في محاولةٍ واعيةٍ لصياغة سرديّةٍ جديدةٍ تُشبهه، وتتماهى مع منطق حكمه القائم على الإثارة أكثر من التخطيط، وعلى الصورة قبل الفكرة.
هذا المشهد لا يمكن قراءته بمعزلٍ عن المناخ الإقليميّ والدوليّ المشحون الذي يحيط به، فالعالم يقف اليوم أمام سلسلةٍ من التصعيد الخطير غذّاها المحور الإيرانيّ عبر مغامراتٍ عسكريّةٍ وسياسيّةٍ غير محسوبة، أدخلت المنطقة في دوّامة توتّرٍ متصاعد.
بدّل توتّرٌ قواعدَ الاشتباك، ورفع سقف المخاطر إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، حتّى بات الجميع، بمن فيهم ترامب، أقرب إلى راقصين على حافة هاويةٍ تشتعل تحتها نيرانٌ يصعب التكهّن باتّجاه امتدادها، فيصبح الضجيج الذي أثارته “صالة الرقص” تلك في البيت الأبيض ليس إلّا إنكاراً جماعيّاً لهذا الواقع المقلق، إنكاراً يُحاكي في جوهره سياسة الإلهاء التي يتقنها ترامب نفسه، حين يفتح معركةً رمزيّةً ليصرف الأنظار عن معارك أكثر خطورة.
منذ عودته إلى واجهة المشهد السياسي، لم يغيّر ترامب أدواته كثيراً، فهو الرجل ذاته الذي يُتقن صناعة الحدث أكثر من معالجته، وكلّما استعصى عليه ملفٌّ خارجيّ، لجأ إلى مسرحه الداخليّ، يعزف فيه على وترٍ يعرفه جيّداً مفاده شدّ الرأي العامّ، وإثارة الانقسام، وصناعة العناوين التي تملأ الفضاء الإعلاميّ وتُخفي ما لا يريد أن يُكشف.
هكذا تحديداً تحوّل النقاش الأميركيّ فجأة من تصعيدٍ إقليميٍّ يهدّد أمن العالم إلى جدلٍ في حفلات رقصٍ في البيت الأبيض، وكأنّ الرقص يمكن أن يعلّق الزمن أو يؤجّل الانفجار.
هذا التكتيك ليس جديداً على ترامب، إذ إنّه امتدادٌ لطريقته في إدارة الملفّات منذ ولايته الأولى، حين كان يلجأ إلى “الضوضاء المنظّمة” كلّما ضاقت به سُبل المعالجة السريعة، سواء في السياسة الخارجيّة أو في الأزمات الداخليّة، إذ يدرك الرجل أنّ المجتمع الأميركيّ المنهك بالاستقطاب والمشحون بالجدالات اليوميّة بات أرضاً خصبةً لأيّ عرضٍ “سياسيّ-استعراضيّ”، ومن هذا الباب بالذات يحاول تمرير رسائل مفادها أنّه ما يزال المتحكّم بإيقاع اللعبة، حتّى لو كان المسرح من حوله ينهار.
إيقاعات البيت الأبيض لاهبةٌ ومرتفعةٌ جدّاً اليوم، لا تشقّها إطلاقاً أيّ تحذيراتٍ بشأن اقتراب الهاوية، ولا أيّ قناعةٍ بأنّ الموسيقى وحدها لا تصنع خلاصاً
انهيار الخطوط الفاصلة
اللافت هنا أنّ هذه الرقصة الرمزيّة تأتي في لحظةٍ يتصاعد فيها الحديث داخل الولايات المتّحدة عن أزماتٍ حقيقيّةٍ تهدّد تماسك الداخل الأميركيّ، ومنها مسألة الإغلاق الحكوميّ التي لا تُعدّ تفصيلاً عابراً، بل عنوان أزمةٍ ماليّة – سياسيّةٍ متشابكة تُظهر حدود قدرة ترامب على المناورة بين الخارج والداخل. فبينما يلوّح بخطاب القوّة في وجه خصومه في الخارج، يواجه داخليّاً ملامح رأيٍ شعبيٍّ آخذٍ في التبلور ضدّ سياساته، رأيٍ يرى في أدائه الكثير من الاستعراض وقليلاً من الفعل الحقيقيّ. ومع تزايد الحديث عن تكلفة الخيارات السياسيّة والاقتصاديّة، يصبح المسرح الداخليّ في المحصّلة المتنفَّس الوحيد الذي يستطيع ترامب من خلاله استعراض مهاراته القديمة في قلب الطاولة وصناعة الحدث من لا شيء.
في العمق، لا يتعلّق الأمر برقصةٍ أو حفلةٍ أو مزحةٍ سياسيّة، وإنّما بحقيقةٍ أنّ العالم فقدَ القدرة على أخذ نفسه بجدّيّةٍ كافية.
تحوّلت السياسة إلى عرضٍ حيّ، وزعماء العالم إلى مؤدّين يتبارون على المسرح في لحظةٍ كان يُفترض أن يُمسك فيها أحدهم بعجلة القيادة لا بيد الراقص. ومن هنا، يصبح الضجيج المثار حول صالة الرقص نفسها مرآةً لانهيار الخطوط الفاصلة بين العبث والقرار، بين الترفيه والمصير.
قد ينجح ترامب مرّةً أخرى في سرقة الأضواء، وقد يُصفّق له أنصاره كما يفعل الجمهور في العروض الاستعراضيّة الكبرى، لكنّه لا يستطيع أن يُخفي أنّ المسرح من حوله يتآكل.
إقرأ أيضاً: ترامب يهدي العراق… جابي ضرائب!
فالعالم اليوم لا يحتاج إلى راقصٍ ماهرٍ بقدر ما يحتاج إلى من يملك الجرأة على إيقاف الموسيقى، وهذه الجرأة على ما يبدو ليست في قاموس ترامب، ولا في قاموس كثيرين ممّن اختاروا أن يتعاملوا مع الهاوية وكأنّها نقطة ضوءٍ على خشبة مسرح وحسب.
إيقاعات البيت الأبيض لاهبةٌ ومرتفعةٌ جدّاً اليوم، لا تشقّها إطلاقاً أيّ تحذيراتٍ بشأن اقتراب الهاوية، ولا أيّ قناعةٍ بأنّ الموسيقى وحدها لا تصنع خلاصاً.
