امتلأ حفل افتتاح المتحف المصريّ الكبير بالدلالات المقصودة، فقد حضره تسعةٌ وسبعون وفداً رسميّاً من الخارج، ثلثاهم غربيّون وعلى مستويات رفيعة. وكان شعار الحفل الذي نشره الرئيس السيسي في خطابه: “الحضارة والسلام”. فلا حضارة بدون استقرارٍ وسلام، ولا سلام من جهةٍ أخرى بدون استقرارٍ حضاريّ وإنسانيّ.
جمعت مصر في احتفالها بين رموز ماضيها العريق وأشكال الحداثة المعاصرة، فظهرت الأزياء الفرعونيّة إلى جانب الموسيقى الغربيّة، في تناغمٍ يعكس ثراء الشخصيّة المصريّة وتنوّعها الثقافيّ. وعلى الرغم ممّا قيل عن أنّ الغاية من هذا المشهد هي جذب مزيدٍ من السيّاح، فإنّ المعنى أعمق من ذلك بكثير. فالمتحف الكبير ليس مشروعاً سياحيّاً فحسب، بل هو إعلانٌ جديد عن حضارة متجدّدة ودولة عريقة تعرف كيف تُحيي ماضيها وتستشرف مستقبلها.
في الحفل العالميّ لافتتاح المتحف المصريّ الكبير (مساء السبت في 1 تشرين الثاني 2025) ربط الرئيس المصريّ الحضارة بالسلام، والسلام بالحضارة. وفي الواقع فإنّ الحضارة في الإبداع والإنشاء والتطوير تحتاج إلى استقرار. وهذا هو الفرق بين التحدّيات التي واجهتها إمبراطوريّات العراق القديمة والإمبراطوريّة المصريّة.
يُحصي المؤرّخون للعالم القديم اثنتي عشرة هزّة سياسيّة وعسكريّة بالداخل العراقيّ بين السومريّين والبابليّين والآشوريّين خلال خمسمئة عام، بينما لا تعرف الدولة المصريّة القديمة إلّا أربع هزّات كبرى خلال قرابة ألفَي عام بين توحيد مصر العليا مع مصر السفلى وغزو الإسكندر فالرومان.
امتلأ حفل افتتاح المتحف المصريّ الكبير بالدلالات المقصودة، فقد حضره تسعةٌ وسبعون وفداً رسميّاً من الخارج، ثلثاهم غربيّون وعلى مستويات رفيعة
عنوان معتبَر لمصر الجديدة
هناك معالم إمبراطوريّة كبرى في العراق القديم لكنّها أقلّ بكثير ممّا هي بمصر، وكثير جدّاً من معالم حضارة بلاد ما بين النهرين تحوّل إلى خرائب، قبل أن يسرق الأثريّون الأوروبيّون، وبخاصّةٍ البريطانيّون والألمان، ثلث تلك الآثار ويخرّبوها تسهيلاً لاستلابها. إنّما على كلّ حال ظلّت عجائب العمران والحضارة في مصر وبلاد ما بين النهرين محلّ ذهول الغربيّين في المئتَي عام الأخيرة، وهو الذهول الذي بدا أوّل ما بدا في التوراة ثمّ في الإنجيل.
يأمل المصريّون الآن أن يزيد عدد السيّاح (وهم غربيّون في الأعمّ الأغلب) بمقدار خمسة ملايين في العام بسبب المتحف الكبير، وهم كانوا عام 2014 خمسة عشر مليوناً وسبعمئة ألف، وقد يبلغون هذا العام حوالي ستة عشر مليوناً ونصف مليون.
قد تكون مسألة الحضارة والسلام هي العنوان المعتبَر لمصر الجديدة. فمنذ جمال عبدالناصر ما قام لمصر عنوان يعترف به الجميع على الرغم من انتصار أكتوبر (تشرين الأوّل) عام 1973، والصلح مع إسرائيل عام 1979 الذي استردّت مصر خلال عقدٍ بعده كلّ أراضيها التاريخيّة. وفي سياق عمليّات الاسترداد بالتفاوض، كانت شرم الشيخ ميناءً وفضاءً تحدّياً كبيراً. وتوشك الآن أن تتحوّل أيضاً إلى رمزٍ لحضارة السلام أو الحضارة من خلال السلام، بعد مؤتمر ترامب الكبير بشرم الشيخ من أجل اتّفاق وقف النار في غزّة وخطواته الواعدة.
يعتقد الأميركيّون، بخلاف الإسرائيليّين الحاكمين اليوم، أنّ الضمان الأكبر لإسرائيل ومستقبلها هو السلام مع مصر وسورية. وهي الاستراتيجية التي يتبعها الرئيس ترامب ويسير فيها رئيس مصر. فحتّى في خطاب افتتاح المتحف، أظهر الرئيس أنّ مصر أدّت واجبها وأكثر في الحرب على غزّة، وباعتبارها طرفاً مع أميركا وقطر وتركيا ستتابع بجدٍّ بقيّة الخطوات الصعبة والمعقّدة وصولاً إلى إقامة الدولة الفلسطينيّة.
يعرف رئيس مصر مزاج الشعب المصريّ الفائر لجهة غزّة وفلسطين، ولذلك لا بدّ من التوازن لهذه الجهة بين الحضارة المصريّة القديمة والأصيلة ومستقبلها ومستقبل مصر (المعتمِد على العالم الحاضر للاحتفال الكبير) بالعمل من أجل السلام، ولكي يكونَ ويبقى مستقرّاً لا بدّ أن يكون عادلاً (بإقامة الدولة الوطنيّة الفلسطينيّة).
يأمل المصريّون الآن أن يزيد عدد السيّاح (وهم غربيّون في الأعمّ الأغلب) بمقدار خمسة ملايين في العام بسبب المتحف الكبير
هويّة خاصّة؟
يحتوي المتحف المصريّ الكبير على مئة ألف قطعة، تسعون بالمئة منها فرعونيّة، ولذلك يفخر المصريّون بأنّه أكبر متحفٍ في العالم لحضارة واحدة. ويبلغ بهم الاعتزاز حدَّ اعتبار الدولة المصريّة أقدم دولةٍ في العالم. الرئيس السيسي والمتحدّثون الآخرون أعطوا الدولة المصريّة عمر سبعة آلاف سنة. وهذا تاريخٌ للحضارة وليس للدولة، إذ ما توحّدت مصر العليا والسفلى إلّا منذ قرابة ثلاثة آلاف سنة.
يعلّل المفكّر الألماني كارل فيتفوجل (–1988) في كتابه “الاستبداد الشرقيّ” قِدَم الدول الواحدة أو شبه الواحدة في مصر وبلاد ما بين النهرين والصين وروسيا والهند إلى مشكلة الريّ في بلدان الأنهار الكبرى ذات المجاري الطويلة، التي لا بدّ أن تخضع لسلطةٍ واحدةٍ قويّة من أجل تنظيم مسائل الريّ على طول المجرى من الأعلى إلى الأسفل. ويبدو أنّ هذا هو ما حصل في مصر القديمة، فالفرعون الذي وحّد الدولة أتى من مصر السفلى المتضرّرة من الانقسام، ثمّ صار رأس السلطة في أغلب الأوقات والأزمنة في مصر العليا.
إنّما لماذا هذه الفلسفة الطويلة؟
مصر القديمة والحديثة تستأهل أن تكون عندها دولة تستقلّ بأمورها كلّها وتحاول الامتداد في المحيط. حتّى في زمن الإسلام، ما استقرّت مصر بسياسات الولاة حتّى قامت بها دويلات شبه مستقلّة، ثمّ دول وإمبراطوريّات أيّام الفاطميّين والأيوبيّين والمماليك. إنّما الذي صار مثل “الفشار”، كما يقول المصريّون، إصرار دليلٍ سياحيّ مصريّ على أنّ الحضارة المصريّة عمرها سبعمئة ألف عام.
فلنذهب باتّجاه الاحتفال الجميل الذي حضره تسعة وسبعون وفداً معظمهم غربيّون، في ذلك الافتتاح الرائع بالفعل. فباستثناء دقيقتين أو ثلاث من موسيقى شرقيّة ورقص المولويّة وشيخٍ ينشد إنشاداً سريعاً ومنظر كنيسة، كانت المشاهد الموسيقيّة والأوبراليّة والرقص كلّها كلاسيكيّة وحديثة غربيّة ومن عدّة بلدان، وبخاصّةٍ اليابان التي دعمت مشروع المتحف في مختلف مراحله (2002–2024) بحوالي ثمانمئة مليون دولار عبر قرض طويل الأمد.
فهل هذا التغريب مقصود؟ ما عاد هناك نزاع ظاهر على هويّة مصر العربية والإسلاميّة، لكنّ هناك تيّاراً عميقاً بين النخب يريد لمصر هويّةً خاصّة، إن لم يكن عن الإسلام فعن العروبة. ونحن نذكر أحياناً كتاب طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر” (1937)، الذي جرّ مصر من الفراعنة إلى الثقافة الإغريقيّة والأوروبيّة استناداً إلى تميّز ثقافة الإسكندر والإسكندريّة عن ثقافة الصحراء.
تستطيع مصر أن تكون ما تريده في المدى المتوسّط، وأمّا الانتماء في المدى الطويل فهو أمرٌ آخر. لقد أُعجب الحاضرون بالحفل الغربيّ الساحر، واللائق على أيّ حال بثقافة الجامعات والمتاحف بأوروبا والولايات المتّحدة منذ القرن السابع عشر. وهي ثقافةٌ صارت تقليداً لدى النخب النبيلة قبل أن تتبنّاها الدول في حقبة النهوض القوميّ.
مصر العظيمة في التاريخ والحاضر تبحث عن عنوان. ويراد أن يكون حضاريّاً وإسلاميّاً، لأنّه لا حضارة بدون سلام. لكنّ مصر ذات حضارة السلام وضعت في صدر متحفها الكبير التمثال الضخم لرمسيس الثاني، أعظم ملوك مصر القدامى وأكثرهم حروباً كانت كلّها مظفَّرة.
إقرأ أيضاً: الجرأة في استقبال الدولة الوطنية؟
هذا هو سحر مصر، وهو سحرٌ يظلّ محوطاً بالغموض وأسرار الروح، على الرغم من ارتفاع الأصوات من كلّ اتّجاه.
لنتأمّل غرام المصريّين وغرامنا نحن العرب بمصر في أغنية أمّ كلثوم:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبّها من كلّ روحي ودمي
يا ليت كلَّ مؤمنٍ بعزّها يحبّها حبّي لها
لا بأس بالتنافس في كلّ شيء، وأمّا حبُّ مصر فلا تنافُسَ فيه.
لمتابعة الكاتب على X:
