فيما تتواصل الغارات الإسرائيليّة على الأراضي اللبنانيّة على الرغم من اتّفاق وقف إطلاق النار المبرم في 27 تشرين الثاني 2024، يجد لبنان نفسه في موقع بالغ الصعوبة أمام معادلة أميركيّة – إسرائيليّة قائمة على الضغط بانتظار مسار السلام، وسط دبلوماسيّة لبنانيّة محدودة التأثير وغير قادرة على جذب اهتمام جدّي في واشنطن.
بينما تكتفي بيروت بالمشاركة في لجنة “الميكانيزم” عبر وفود تقنيّة وبتسطير بيانات احتجاج، يغيب أيّ تواصل مباشر بين كبار المسؤولين اللبنانيّين وبين الرئيس دونالد ترامب أو وزير الخارجيّة ماركو روبيو أو حتّى المبعوثين الأساسيّين مثل ستيف ويتكوف وجاريد كوشنير. في المقابل، التقى ترامب الرئيس السوري أحمد الشرع مرّتين خلال العام الجاري، ومن المتوقّع أن يزور البيتَ الأبيض خلال تشرين الثاني، في مشهد يعكس أولويّات واشنطن الجديدة: دعم النظام السوري ما دام منفتحاً على التسويات الإقليميّة ومحاربة “داعش”، مقابل تجاهل لبنان الذي يبدو بلا رؤية موحّدة أو حلفاء نافذين في واشنطن.
تعبّر تصريحات السفير الأميركيّ في تركيا والمبعوث الخاصّ إلى سوريا ولبنان توم بارّاك، وهو من الشخصيّات المقرّبة من ترامب، بوضوح عن هذا المزاج. وصف بارّاك لبنان بأنّه “دولة فاشلة غير قادرة على نزع سلاح “الحزب” بالقوّة، وتفتقر إلى قيادة تتحدّث لغة المصالح الأميركيّة”. تسود هذه النظرة القاسية في الدوائر القريبة من الرئيس، وتكشف أنّ بيروت لم تنجح في تطوير خطاب استراتيجيّ يحوّل الضغط إلى فرصة تفاوض، بعكس دمشق التي استطاعت أن تستثمر المرونة الأميركيّة الجديدة وتحظى بدعم غير مباشر من عواصم عربيّة صديقة لواشنطن مثل الرياض وأبوظبي والدوحة وأيضاً تركيا.
تعتمد واشنطن في عهد ترامب الثاني على مبدأ القوّة قبل الحوار
تراجع الاهتمام بلبنان
على الرغم من التراجع العسكريّ والسياسيّ الذي يواجهه “الحزب” داخل لبنان، لا يزال يحتفظ بنفوذ واسع وحضور فاعل في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، وهو ما يمنح إيران ورقة مؤثّرة في معادلات اللعبة الإقليميّة. من هذا المنطلق، يرى كثيرون أنّ التعامل مع “الحزب”، وبالتالي مع لبنان، ما يزال يجري ضمن الإطار التفاوضيّ الأوسع المرتبط بإيران. ومن هنا تراجع الاهتمام بلبنان على المستوى الرئاسيّ الأميركيّ.
تعتمد واشنطن في عهد ترامب الثاني على مبدأ القوّة قبل الحوار، في مقاربة تمزج بين الضغط الاقتصاديّ والعقوبات من جهة، وبين فتح قنوات تفاوضيّة محدودة من جهة أخرى. تشترط الإدارة الأميركيّة تقليص نفوذ “الحزب” في مقابل أيّ دعم ماليّ للبنان، لكنّها في المقابل قدّمت بعض الحوافز الرمزيّة، مثل دعم مفاوضات مباشرة بين إسرائيل ولبنان وتخصيص مساعدات أمنيّة بقيمة 14.2 مليون دولار في أيلول 2025.
مع ذلك، لا تُبدي واشنطن التزاماً فعليّاً ببناء الثقة أو الانخراط السياسيّ المباشر، إذ تظلّ القنوات مفتوحة فقط على مستوى الدبلوماسيّين المتوسّطين. بينما تتمّ اللقاءات الرئاسيّة والوزاريّة الرفيعة المستوى مع دمشق لا مع بيروت. هكذا يجد لبنان نفسه على هامش المشهد الذي يتشكّل بين إسرائيل وسوريا والعواصم العربيّة المتصالحة مع واشنطن.
عزلة عربيّة
إلى جانب الفتور الأميركيّ، يعيش لبنان عزلة عربيّة واضحة. الدول العربيّة المؤثّرة في واشنطن غير متحمّسة لتبنّي وجهة النظر اللبنانيّة والتسويق لها. النتيجة أنّ لبنان بلا مظلّة عربيّة مؤثّرة ولا وزن حقيقيّ في أجندة إدارة ترامب، في حين تحظى دمشق بموقع متقدّم في الحسابات الأميركيّة الإسرائيليّة الجديدة.
يعيش لبنان عزلة عربيّة واضحة. الدول العربيّة المؤثّرة في واشنطن غير متحمّسة لتبنّي وجهة النظر اللبنانيّة والتسويق لها
يبقى سلاح “الحزب” محور السياسة الأميركيّة في لبنان. كلّ دعم اقتصاديّ أو سياسيّ مشروط بخطوات ملموسة لاحتواء “الحزب” أو نزع سلاحه. أعلنت الحكومة اللبنانيّة في تشرين الأوّل 2025 إزالة نحو 10,000 صاروخ و400 منصّة إطلاق ضمن خطّة مرحليّة لنزع السلاح بإشراف أمميّ جزئيّ.
لكنّ هذه السياسة تجاهلت أنّ “الحزب” متجذّر في النظام اللبنانيّ، وأنّ الضغط الماليّ والعقوبات أضعفت الدولة أكثر ممّا أضعفته. مع ذلك، يسعى “الحزب” إلى إعادة التموضع سياسيّاً واقتصاديّاً من دون التنازل عن سلاحه الذي يعتبره “ضمانة الردع” أمام إسرائيل.

ما تزال بيروت تفتقر إلى خطّة موحّدة للاستثمار في مسار سياسيّ طويل الأمد، إذ لم تبادر حتّى الآن إلى بلورة وفد تفاوضيّ رفيع المستوى يمكنه التعامل مباشرة مع الإدارة الأميركيّة أو الاستفادة من وساطات عربيّة صديقة لترامب.
النتيجة أنّ لبنان ما يزال ورقة صغيرة في لعبة كبرى تُدار بالعقوبات والتحالفات، لا بالمبادرات. تمارس واشنطن الضغط، تترجمه إسرائيل ميدانيّاً، وتتنافس العواصم العربيّة على النفوذ من دون أن تنظر إلى بيروت كأولويّة.
في ظلّ هذا الواقع المعقّد، لا تنظر واشنطن إلى لبنان إلّا من زاوية أمنيّة بحتة، باعتباره ساحة هشّة تتأثّر مباشرة بأيّ تصعيد أو تسوية في المنطقة. مع غياب رؤية سلام واضحة، يبقى موقع لبنان معلّقاً على ما ستؤول إليه علاقة الولايات المتّحدة بإيران، ومدى اندماج طهران في مشاريع الاستقرار الإقليميّ المقبلة.
إقرأ أيضاً: هل سلّمت واشنطن بإبقاء السّلاح شمالاً للعام المقبل؟
مع ذلك، ما يزال الباب مفتوحاً، إذا امتلكت الحكومة اللبنانيّة الجرأة لصياغة رؤية واقعيّة تربط الأمن بالسيادة وتخاطب واشنطن بلغة المصالح لا المناشدة. لا تُنتظَر الدبلوماسيّة الفاعلة بل تُصنَع، ومن دونها سيبقى لبنان بين قصفٍ متجدّدٍ ودبلوماسيّةٍ غائبةٍ، في انتظار وساطة لا أحد يبدو مستعجلاً لإطلاقها.
لمتابعة الكاتب على X:
