مغربيّة الصّحراء… وظهور الحقيقة

مدة القراءة 6 د

كان لا بدّ للحقيقة أن تظهر يوماً. أن تظهر الحقيقة متأخّرة أفضل من ألّا تظهر أبداً. تأتي مناسبة الكلام، في ضوء صدور القرار الأخير لمجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة الذي يعترف فيه بالسيادة المغربيّة على الأقاليم الصحراويّة ويحسم النزاع بين المغرب والجزائر.

 

 

بعد خمسين عاماً على “المسيرة الخضراء” التي انطلقت في السادس من تشرين الثاني 1975 وشارك فيها نحو 350 ألف مغربيّ رفعوا القرآن الكريم، اعترف مجلس الأمن بالسيادة المغربيّة على الأقاليم الصحراويّة. تبنّى قراراً يؤكّد أنّ الحلّ “الذي قد يكون الأكثر فاعليّة” في الصحراء هو مبادرة الحكم الذاتيّ الموسّع التي طرحها المغرب في عام 2007.

تلك هي رؤية الملك محمّد السادس التي أدّت في نهاية المطاف إلى القرار الأمميّ الجديد الذي لا يفتح الأبواب أمام طيّ صفحة نزاع الصحراء فحسب، بل يمكن أن يؤسّس لعلاقات جديدة بين دول المنطقة بعيداً عن الأوهام. لم يتردّد المغرب يوماً في البحث عن صيغة تنقذ ماء الوجه للنظام الجزائريّ في ما يخصّ إيجاد ممرّ للبلد الجار إلى المحيط الأطلسيّ. الأكيد أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق من دون السيادة المغربيّة على الأقاليم الصحراويّة.

لم يأتِ قرار مجلس الأمن من فراغ. كانت الرؤية الملكيّة المتبصّرة، ولا تزال، الركيزة الأساسيّة لهذه الديناميّة بعدما جمعت بين وضوح الرؤية السياسيّة ورصانة الفعل الدبلوماسيّ

دعم 120 دولة

لم يأتِ قرار مجلس الأمن من فراغ. كانت الرؤية الملكيّة المتبصّرة، ولا تزال، الركيزة الأساسيّة لهذه الديناميّة بعدما جمعت بين وضوح الرؤية السياسيّة ورصانة الفعل الدبلوماسيّ. تجسّدت في الدعم الصريح والمتزايد لمغربيّة الصحراء من جانب أكثر من 120 دولة عضو في الأمم المتّحدة، التي أكّدت أنّ مبادرة الحكم الذاتيّ هي الحلّ الوحيد والواقعيّ للنزاع الإقليميّ المفتعل في شأن الصحراء.

يوجد فعل تراكميّ بدأ في “المسيرة الخضراء” التي خطّط لها الراحل الملك الحسن الثاني. خطّط الحسن الثاني أيضاً لمرحلة ما بعد خروج المستعمِر من الصحراء، في وقت كانت تمرّ فيه إسبانيا في مرحلة انتقاليّة من دولة ديكتاتوريّة يحكمها الجنرال فرانكو إلى نظام ملكيّ دستوريّ على رأسه الملك خوان كارلوس.

منذ استعادته لأقاليمه الصحراويّة، بطريقة سلميّة، بفضل “المسيرة الخضراء” ثمّ انشاء الجدران التي سمحت بحمايتها عسكريّاً، استطاع المغرب خوض كلّ المعارك السياسيّة والعسكريّة. نجح في ذلك إلى درجة أنّ الملك محمّد السادس قال في خطابه لمناسبة عيد العرش (30 تمّوز 2025) إنّ “هذه المواقف الداعمة للحقّ والمشروعيّة تُلهمنا الفخر والاعتزاز، وتدفعنا إلى المضيّ في البحث عن حلّ توافقيّ يُحفظ فيه ماء وجه الجميع، بحيث لا يكون هناك لا منتصر ولا منهزم”.

ثمّة جانب آخر للحقيقة التي ظهرت متأخّرة. يتمثّل في أنّ العالم بات يدرك أكثر من أيّ وقت أنّ نزاع الصحراء، نزاع مفتعل، بل حرب استنزاف شنّتها الجزائر على المغرب. شنّها في الواقع نظام عسكريّ يصدّر، كعادته، أزماته إلى خارج حدود الجزائر. كان الهدف الجزائريّ، الذي كان مطلوباً أن يتحقّق على حساب المغرب ووحدته الترابيّة، واضحاً. يتمثّل الهدف في إقامة كيان مصطنع في الصحراء يدور في الفلك الجزائريّ ويحوّل الجزائر إلى دولة ذات واجهة على المحيط الأطلسيّ.

الاستثمار في الاستقرار

يظلّ بين العوامل الأخرى، التي لعبت دورها في ظهور الحقيقة عارية، أنّ المغرب استوعب باكراً ماذا يعني الاستثمار في الاستقرار، بدل الإرهاب، في طول منطقة الساحل الإفريقيّ وعرضها. فعل ذلك بعيداً عن الشعارات الفضفاضة التي استخدمها النظام الجزائريّ في الحرب التي يشنّها على المغرب، وهي شعارات من بينها حقّ تقرير المصير للشعوب. لو كان النظام الجزائريّ جدّيّاً في توفير كيان سياسيّ للشعب الصحراويّ، المنتشر على طول الشريط الممتدّ من موريتانيا إلى جنوب السودان، لكان أقام مثل هذا الكيان في أراض جزائريّة يوجد فيها صحراويّون.

ما يهمّ في الوقت الحاضر هو التطلّع إلى المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي والعيش في ظلّ عقدة المغرب، الذي استطاع تحقيق إنجازات ضخمة في كلّ المجالات

ما يهمّ في الوقت الحاضر هو التطلّع إلى المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي والعيش في ظلّ عقدة المغرب، الذي استطاع تحقيق إنجازات في كلّ المجالات، بما في ذلك على صعيد تكريس مغربيّة الصحراء. يبدو السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة في ضوء صدور قرار مجلس الأمن مرتبطاً بكيفيّة تعاطي النظام الجزائريّ مع القرار: هل من مجال لتعاطٍ جزائريّ إيجابيّ مع القرار الجديد لمجلس الأمن… أم لا يستطيع النظام الجزائريّ الاقتناع بأنّه خسر حربه التي يشنّها بالواسطة على المغرب؟

لا أوراق ضغط جزائريّة

في النهاية، لا يمكن تجاهل أن لا أوراق لدى الجزائر تبتزّ بها أوروبا، بما في ذلك فرنسا وإسبانيا، أو دولاً إفريقيّة كما كان يحصل في الماضي. استطاع المغرب منذ عودته إلى الاتّحاد الإفريقيّ تحقيق اختراقات في كلّ أنحاء القارّة السمراء التي جال فيها محمّد السادس… وصولاً إلى مدغشقر.

الأهمّ من ذلك كلّه أنّ النظام الجزائريّ يمتلك، بفضل ملفّ الصحراء، فرصة لإظهار قدرته على إعادة تأهيل نفسه، أقلّه أميركيّاً. ليس سرّاً أنّ كبار المسؤولين الجزائريّين يراهنون حاليّاً على علاقات أفضل مع الولايات المتّحدة. هذا ما رشح من لقاءات عقدها مسؤولون جزائريّون كبار مع زوّار أجانب.

إقرأ أيضاً: أنقرة وتل أبيب: خصومة “اليوم التّالي” في غزّة!

تبيّن أنّ هذا الرهان ليس في محلّه، وأنّ المطلوب أميركيّاً تفاهم جزائريّ مع المغرب، مدخله الصحراء. ظهر ذلك من الكلام الصادر عن المبعوث الأميركيّ الرفيع المستوى ستيف ويتكوف، وعن مسعد بولس ممثّل الرئيس دونالد ترامب في كلّ ما له علاقة بالملفّات الإفريقيّة، بما في ذلك ملفّ الصحراء. كان لافتاً إصرارُ مسعد بولس أثناء لقاء تلفزيونيّ على عبارة “الصحراء المغربيّة”.

ليس القرار الجديد لمجلس الأمن سوى ترجمة لتوجّه أوسع نحو اتّساع رقعة الاعتراف الدوليّ بسيادة المغرب على صحرائه والدعم المتزايد لمبادرة الحكم الذاتيّ. يقابل ذلك تراجع الاعترافات بالكيان الانفصاليّ الذي لم يؤمن به غير الذين ما يزالون يعتقدون أنّ الاتّحاد السوفيتيّ خرج منتصراً من الحرب الباردة… وأنّ جدار برلين ما يزال قائماً وأنّ ألمانيا لم تتوحّد!

مواضيع ذات صلة

نهاية نظام الإقطاع السّياسيّ

لم يتبقَّ من “نظام أبوات” الطوائف في لبنان، سوى أشباح زعامات تصارع عند عتبة الشيخوخة. حالة اليتم الصامتة التي تسيّج واقع الطائفة الشيعيّة بشكل أوضح…

بن سلمان إلى واشنطن: النووي الإيراني ورسم التّوازنات

قبل أيّام من وصول وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان إلى واشنطن، تتّجه الأنظار إلى البيت الأبيض حيث يُنتظر أن تشكّل الزيارة محطّة مفصليّة…

دستور فلسطينيّ بنكهة فرنسيّة

اتّفق الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس مع نظيره الفرنسيّ إيمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعهما في باريس في 11 تشرين الثاني، على تشكيل لجنة مشتركة تعمل…

لقاءات لوجاندر اللّبنانيّة: التّرسيم والميكانيزم

تأتي زيارة مستشارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، آن كلير لوجاندر، لبيروت تعبيراً طبيعيّاً عن الحضور الفرنسيّ الدائم. زيارتها مكمّلة وغير متعارضة مع زيارات الموفد الرئاسيّ…