كارثة مصرفيّة واحدة في لبنان وسورية

مدة القراءة 4 د

لم يكن ينقص سورية في هذه الظروف الانتقاليّة الحرجة إلّا ظهور انكشافها الكبير على الأزمة المصرفيّة في لبنان. تبيّن أنّ أزمة النظام المصرفيّ اللبنانيّ التي التهمت الودائع في المصارف اللبنانيّة، أخذت بدربها أيضاً ثلث الودائع في المصارف السوريّة.

 

يقول المثل الشعبي “إن كان جارك بخير فأنت بخير”، ويبدو أنّ العكس صحيح أيضاً. إذا لم يكن جارك بخير فأنت لست بخير. كانت للانهيار الماليّ في لبنان آثار بالغة السلبيّة على ودائع السوريّين في لبنان، وعلى ميزانيّات المصارف المرخّصة في سورية.

تكشّفت هذه الحقيقة من خلال ردود الفعل العديدة على تعميم حاكم مصرف سورية المركزيّ عبدالقادر حصرية، الذي ألزم المصارف السوريّة بالإفصاح عن انكشافها على المصارف اللبنانيّة واعتبار كامل ودائعها واستثماراتها لدى هذه الأخيرة خسائر تجب تغطيتها بمؤونات تساوي كامل قيمتها.

تكتسب هذه المسألة أهمّيّتها من كون البعد الاقتصاديّ بين أهمّ التحدّيات التي تواجهها سورية في المرحلة الانتقاليّة، إلى جانب الصراع الدوليّ والإقليميّ على النفوذ فيها، والطموحات الانفصاليّة في الشمال الشرقيّ والساحل والجنوب.

216 ملياراً لإعادة الإعمار

قدّر البنك الدوليّ كلفة إعادة إعمار البنية التحتيّة والأبنية السكنيّة وغير السكنيّة، بعد عقد ونصف عقد من الحرب الأهليّة، بمبلع 216 مليار دولار.

من جهة أخرى، لا يتوقّع أن يزيد النموّ الاقتصاديّ خلال العام الجاري عن واحد في المئة، بعد انكماش في الناتج المحلّي الإجماليّ بلغ 1.5 في المئة في العام الماضي. يعزو البنك الدوليّ هذا النموّ الضعيف إلى الاضطرابات الأمنيّة في بعض المناطق، وإلى شحّ السيولة، وضعف المساعدات الخارجيّة، على الرغم من الوعود ذات الصدقيّة. يضاف إلى ذلك ما بقي من عقوبات لا تزال مفروضة على البلاد، لا سيما الأحكام القاسية لقانون قيصر.

قضى الانهيار المصرفيّ في لبنان على ثلث ودائع المصارف السوريّة و90 في المئة من ودائع المصارف اللبنانيّة

ألحقت سنوات الحرب أفدح الأضرار بالقطاعات الاقتصاديّة، خصوصاً السياحة والطاقة والصناعة، وساهمت في نشر مزيد من الفقر في مجتمع هو فقير بالأصل. حسب تقديرات البنك الدولي، انكمش الاقتصاد السوريّ خلال سنوات الحرب بنسبة 50 في المئة وهبطت حصّة الفرد من الناتج الإجماليّ إلى 840 دولاراً سنة 2024.

لبنان

قرّر النظام الجديد في مواجهة هذه الظروف تبنّي نهج الليبرالية الاقتصاديّة، على أمل أن يؤدّي ذلك إلى اكتساب ثقة الخارج بالاقتصاد المحلّي. لكنّ نجاح هذا النهج واستقطاب الاستثمارات والادّخارات، الداخليّة والخارجيّة، يتطلّب وجود نظام مصرفيّ حديث وفاعل، فجاءت الأزمة الناشئة عن تورّط المصارف السوريّة في النظام المصرفيّ اللبنانيّ لتكشف عورات النظام المصرفيّ السوريّ ونقاط ضعفه.

ودائع سوريّة في لبنان بقيمة 1.6 مليار دولار

يقدَّر المبلغ الإجماليّ للودائع في المصارف السوريّة بـ4.9 مليارات دولار، وهو حجم محدود قياساً بحجم الاقتصاد وعدد السكّان. تبلغ خسائر هذه المصارف في لبنان 1.6 مليار دولار وفقاً لِما صرّح به حاكم المصرف المركزيّ السوريّ، أي أنّ خسائر المصارف السوريّة في لبنان تساوي ثلث حجم الودائع فيها.

بتعبير آخر، قضى الانهيار المصرفيّ في لبنان على ثلث ودائع المصارف السوريّة و90 في المئة من ودائع المصارف اللبنانيّة، بما فيها أموال تعود لمواطنين سوريّين. شكّل لبنان منذ عقود متنفّساً للسوريّين هرباً من قيود النظام السابق ثمّ من العقوبات الغربيّة، فاعتمد السوريّون مصارف لبنان على نطاق واسع لتمويل التجارة الخارجيّة بعيداً عن النظم النقديّة الصارمة في عهد “البعث”، ولحفظ مدّخراتهم من دون أن تراها عيون المخابرات.

كانت للانهيار الماليّ في لبنان آثار بالغة السلبيّة على ودائع السوريّين في لبنان

فيما بعد، اندفعت المصارف اللبنانية إلى تأسيس مصارف تابعة لها في سورية متوهّمة أنّ بشّار الأسد، حسب وعوده، سيقود الإصلاح الاقتصاديّ ويشجّع الليبراليّة ويوسّع مساحة الملكيّة الخاصّة، خلافاً لعهد أبيه.

عندما تبدّد هذا الوهم وانفجرت الحرب في سورية ثمّ فُرضت القيود الغربيّة عليها، لم تجد المصارف السوريّة ذات المنشأ اللبناني وجهة للاستثمار إلّا النظام المصرفيّ اللبناني. وقعت هذه المصارف مثل المتموّلين اللبنانيّين ضحيّة إغراء الفوائد المرتفعة، فسقطت في البئر نفسها التي سقط فيها المودعون اللبنانيّون.

إقرأ أيضاً: تسلسل الخطوات لإنقاذ القطاع المالي اللبناني

المشكلة الآن هي في قدرة المصارف السوريّة على إيجاد رساميل إضافيّة لسدّ الثغرة في رساميلها. ليس سهلاً في المرحلة الانتقاليّة، وقبل وضوح الرؤيا، أن تجد رؤوس أموال عربيّة وأجنبيّة مستعدّة لإجراء عمليّات شراكة أو استحواذ.

مواضيع ذات صلة

تسلسل الخطوات لإنقاذ القطاع المالي اللبناني

لا تزال السياسة النقدية والمالية في لبنان رهينة مقاربةٍ تقوم على كسب الوقت وتجنّب مواجهة الحقيقة القاسية: لا تعافٍ اقتصادياً من دون إعادة هيكلة مصرفية…

صندوق النّقد يحسمها: لبنان مقصّر

بينما يشير المسؤولون اللبنانيون إلى قوانين جديدة ومسوّدات خطط، لكن صندوق النقد الدولي غير مقتنع. لا يقتصر الأمر على صدقيّة مساندة الصندوق في المستقبل، بل…

“السّلاح” يطيح “تفاؤل” مصرف لبنان

تحلّ السياسة في البلدان غير المتطوّرة في موقع متقدِّم على الاقتصاد. تمسك بزمام القيادة وترسم معالم الطريق. يخضع الاقتصاد لمفاعيل القرار السياسيّ من دون أن…

الفجوة الماليّة: بين وهم الحلّ وحقيقة التّصفية

منذ خمس سنوات واللبنانيّون يعيشون تحت ثقل انهيار ماليّ هو من بين الأشدّ في التاريخ الحديث. ملايين المودعين وجدوا أنفسهم فجأة أمام أبواب مصرفيّة مغلقة،…