نتنياهو بين مطرقة ترامب وسندان غزّة

مدة القراءة 6 د

كشفت حربُ غزّة حقيقةَ إيران وتوابعها في “محور المقاومة” بدءاً بـ”الحزب” في لبنان والنظام العلويّ في سوريا، وهو نظامٌ سقط بمجرّد رفع الغطاء الإسرائيليّ عنه. لكنّها كشفت أيضاً إسرائيل، على الرغم من كلّ ما ألحقته من هزائم بخصومها في الحروب التي خاضتها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، يوم شنّت “حماس” هجوم “طوفان الأقصى” مستهدفةً مستوطناتٍ في غلاف غزّة.

 

أظهرت إسرائيل أنّها تعاني من حالٍ مرَضيّة تجعلها عاجزةً عن التقدّم بأيّ مشروعٍ سياسيّ قابلٍ للحياة. بموجب مثل هذا المشروع تكون إسرائيل دولةً من دول المنطقة بدل أن تكون دولةً معزولةً على صعيدَي الشرق الأوسط والعالم. صحيحٌ أنّ إسرائيل تستطيع تدمير غزّة والعمل على تهديد الضفّة الغربيّة، فضلاً عن توسيع احتلالها للجولان، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الدولة العبريّة لا تقدر على إيجاد ترجمةٍ لقوّتها على أرض الواقع.

هذا ما يُفسّر التجاذبات التي نشهدها بين حكومة بنيامين نتنياهو من جهة وإدارة دونالد ترامب من جهةٍ أخرى. لا يمكن تضخيم حجم هذه التجاوزات، لكن لا يمكن في الوقت ذاته تجاهلها، على الرغم من أنّ معظم المحيطين بالرئيس الأميركيّ من المنحازين للدولة العبريّة، وقد دفعوا دائماً في اتّجاه دعم السياسات المتطرّفة لنتنياهو.

واشنطن قادرة على ضبط نتنياهو؟

للمرّة الأولى منذ سنواتٍ عدّة، يمكن الكلام عن سعيٍ أميركيّ إلى ضبط “بيبي” بغية تثبيت وقف النار في غزّة من جهة، والتمهيد لطرح مشروع سلامٍ أميركيّ يشمل المنطقة كلّها من جهةٍ أخرى. يستند هذا المشروع إلى النقاط العشرين التي طرحها ترامب في زيارته الأخيرة للمنطقة، حيث ألقى خطابين: الأوّل في الكنيست، والآخر في شرم الشيخ.

في لعبة التجاذبات مع حكومة نتنياهو، قدّمت إدارة ترامب مشروعاً سياسيّاً انطلاقاً من وقف النار في غزّة

يمكن الكلام عن تفهّمٍ أميركيّ، لا أكثر، لأهمّية مراعاة الجانب العربيّ الذي يدعو إلى قيام دولةٍ فلسطينيّة، وهو موقفٌ بات يحظى بتأييد أغلبيّةٍ دوليّة تتجاوز حدود 155 دولة. أكثر من ذلك، لم تُخفِ دولٌ عربيّة نافذة مثل المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة امتعاضها من محاولاتٍ في الكنيست الإسرائيليّة لإقرار قانونِ ضمٍّ للضفّة الغربيّة. جرى تمرير مشروع القانون في قراءةٍ أولى بأكثريّةٍ ضئيلة في الكنيست. سعت الحكومة الإسرائيليّة إلى النأي بنفسها عن مشروع القانون المتعلّق بضمّ الضفّة، لكنّ ذلك لم يمنع نائبَ الرئيس الأميركيّ جي. دي. فانس، الذي كان في إسرائيل، من اعتبار ذلك تحدّياً له، واصفاً تصرّفات نوّابٍ إسرائيليّين ينتمون إلى اليمين بأنّها “سخيفة”.

نتنياهو

بات السؤال الآن: إلى أيّ حدّ يمكن أن تذهب إدارة ترامب في ضبط رئيس الحكومة الإسرائيليّ، الذي حقّق من دون شكّ انتصاراتٍ باهرة على خصومه الإقليميّين، بمن فيهم “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي هاجمها مباشرة؟ لكنّ اللافت أنّ الرئيس الأميركيّ لا يتوقّف عن تذكيره بأنّ الولايات المتّحدة هي من أوقفت المشروع النوويّ الإيرانيّ بشنّها غاراتٍ على أربعة مواقع إيرانيّة تُعدّ جزءاً من المشروع. فعل ترامب ذلك في خطابه أمام الكنيست، وراح يُردّد مقولة أنّ بلاده، وليس إسرائيل، هي من دمّرت المشروع الإيرانيّ في المنطقة، بما سمح بالتوصّل إلى وقفٍ للنار في غزّة.

سبق لرؤساء أميركيّين أن عملوا على تدجين إسرائيل. كان دوايت آيزنهاور أوّل هؤلاء، إذ أجبر إسرائيل على الانسحاب من سيناء في عام 1956 التي احتلّتها بعد مشاركتها مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثيّ على مصر. كان آيزنهاور حازماً. ولم يكن الرئيس جورج بوش الأب، الذي كان إلى جانبه وزير خارجيّته جيمس بايكر ومستشاره لشؤون الأمن القوميّ برنت سكوكروفت، أقلّ حزماً عندما منع إسرائيل من الردّ على العراق في مرحلة ما بعد اجتياح صدّام حسين للكويت صيف عام 1990.

ينجح ترامب في تدجين حكومة نتنياهو أم لا؟ لا يمكن الاستخفاف بالفريق الذي يعمل مع الرئيس الأميركيّ

ورقة قويّة جدّاً

أراد صدّام استفزاز إسرائيل للتغطية على الجريمة التي ارتكبها في حقّ الكويت وأهلها. لكنّ إدارة بوش الأب منعت حكومة إسرائيل من الردّ كي يبقى الأمر محصوراً بالكويت وتحريرها من صدّام. في مرحلةٍ لاحقة أجبرت إدارة بوش الأب حكومة إسحق شامير على قبول استقبال طواقم أميركيّة وصواريخ “باتريوت” في مواجهة أيّ صواريخ يمكن أن تُطلَق من العراق في اتّجاه الدولة العبريّة… ثمّ ضغطت ما فيه الكفاية كي تُشارك إسرائيل في مؤتمر مدريد للسلام الذي انعقد في العاصمة الإسبانيّة أواخر تشرين الأوّل 1991 على أساس القرار 242 الذي يلحظ مبدأ “الأرض في مقابل السلام”.

ينجح ترامب في تدجين حكومة نتنياهو أم لا؟ لا يمكن الاستخفاف بالفريق الذي يعمل مع الرئيس الأميركيّ، وهو فريق يمتلك أفراده مصالح متشعّبة في المنطقة، خصوصاً في دول الخليج العربيّ. يتجاوز الأمر إسرائيل وغياب المشروع السياسيّ لدى الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة.

في اعتراضه على ضمّ الدولة العبريّة للضفّة الغربيّة، يمتلك الرئيس الأميركيّ ورقةً قويّة جدّاً في تعاطيه مع حكومةٍ إسرائيليّة مستعدّةٍ لمتابعة حرب غزّة. تبحث الحكومة الإسرائيليّة، في مرحلةٍ لاحقة، عن حربٍ في لبنان تُبرّرها التصرّفات غير المسؤولة لـ”الحزب” ومن خلفه إيران. تشير التصريحات الأخيرة لترامب إلى أن لا قدرة لدى الدولة العبريّة على الذهاب إلى أيّ حربٍ من دون السلاح الأميركيّ. من دون هذا السلاح، لا مجال لأيّ حربٍ جديدة تُشنّ على إيران التي لم تقتنع بعدُ بخسارتها كلّ الحروب التي افتعلتها على هامش حرب غزّة عبر أدواتها الإقليميّة.

إقرأ أيضاً: الضّفّة الغربيّة… الثّابت الإسرائيليّ الوحيد!

في لعبة التجاذبات مع حكومة نتنياهو، قدّمت إدارة ترامب مشروعاً سياسيّاً انطلاقاً من وقف النار في غزّة. الأكيد أنّ الرئيس الأميركيّ يتفادى مواجهةً مباشرة مع نتنياهو ويسعى إلى إقناعه بأنّ مستقبله السياسيّ مرتبطٌ بالانتقال من الحرب إلى السياسة. يسعى إلى ذلك على الرغم من أنّ “بيبي” لا يزال يتصرّف من منطلق أنّه يستطيع أن يفعل ما يشاء في واشنطن!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@khairallahkhai5

مواضيع ذات صلة

نهاية نظام الإقطاع السّياسيّ

لم يتبقَّ من “نظام أبوات” الطوائف في لبنان، سوى أشباح زعامات تصارع عند عتبة الشيخوخة. حالة اليتم الصامتة التي تسيّج واقع الطائفة الشيعيّة بشكل أوضح…

بن سلمان إلى واشنطن: النووي الإيراني ورسم التّوازنات

قبل أيّام من وصول وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان إلى واشنطن، تتّجه الأنظار إلى البيت الأبيض حيث يُنتظر أن تشكّل الزيارة محطّة مفصليّة…

دستور فلسطينيّ بنكهة فرنسيّة

اتّفق الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس مع نظيره الفرنسيّ إيمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعهما في باريس في 11 تشرين الثاني، على تشكيل لجنة مشتركة تعمل…

لقاءات لوجاندر اللّبنانيّة: التّرسيم والميكانيزم

تأتي زيارة مستشارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، آن كلير لوجاندر، لبيروت تعبيراً طبيعيّاً عن الحضور الفرنسيّ الدائم. زيارتها مكمّلة وغير متعارضة مع زيارات الموفد الرئاسيّ…