اتّفاق الهدنة… مرجعية الخروج من المأزق

مدة القراءة 6 د

يدور جدل في تطبيق اتّفاق السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024 المتعلّق بوقف الأعمال القتاليّة وحصريّة السلاح بيد القوى الشرعيّة (التابعة للدولة اللبنانيّة)، ويعتبر توم بارّاك أنّ “كلّ ما يفعله لبنان هو الكلام ولم يحدث أيّ عمل فعليّ، ويخشى نزع سلاح “الحزب” لوجود اعتقاد بأنّ ذلك سيؤدّي إلى حرب أهليّة”. من جهة أخرى، بات واضحاً أنّه يتمّ إشهار السلم الأهليّ كذريعة من أجل حماية هذا السلاح علماً أنّ معادلة الردع التي روّج لها “الحزب” أثبتت فشلها.

 

يبرز حاليّاً مأزق في مقاربة اتّفاق 27 تشرين الثاني 2024. إذ يقول لبنان إنّ إسرائيل لا تلتزم الاتّفاق، وإسرائيل تطلق الادّعاء ذاته. وللخروج من عدم إمكان إيجاد فهم مشترك، يدعو الجانب الأميركي إلى التفاوض بين لبنان وإسرائيل، وتدعو إسرائيل أيضاً إلى التفاوض والوصول إلى “السلام والتطبيع”. يشير ذلك إلى ضرورة تحديد لبنان لخياراته من كلّ النواحي، خاصّة السياسية والقانونية، والاستناد إلى تاريخ النزاع مع إسرائيل واستخلاص الدروس منه. 

يبرز حاليّاً مأزق في مقاربة اتّفاق 27 تشرين الثاني 2024. إذ يقول لبنان إنّ إسرائيل لا تلتزم الاتّفاق، وإسرائيل تطلق الادّعاء ذاته

الجذور التّاريخيّة

في عودة إلى بدايات تحديد الحدود الجنوبيّة للبنان الكبير (1920)، لا بدّ من التوقّف عند اتّفاق بوليه – نيوكمب الموقّع عام 1923 بين سلطات الانتدابَين الفرنسي والبريطاني، والذي وضع الحدود بين لبنان وفلسطين، التي اعتمدتها عصبة الأمم حدوداً دوليّة رسميّة، فمنحتها شرعيّة قانونيّة.

بعد الحرب العربيّة – الإسرائيليّة الأولى التي شارك فيها لبنان، أجرى الأخير مفاوضات مع إسرائيل بوساطة الأمم المتّحدة، وأسفرت عن اتّفاق هدنة وُقِّع في رأس الناقورة في 23 آذار 1949.

نصّ الاتّفاق على وقف العمليّات العسكريّة واحترام الحدود الدوليّة لعام 1923 باعتبارها خطّاً فاصلاً بين لبنان وفلسطين المحتلّة. على الرغم من أنّها لم تكن معاهدة سلام، فقد أسّست لنظام قانونيّ يُنظّم العلاقة الحدوديّة بين الطرفين، وتمّ إنشاء لجنة الهدنة المشتركة لمراقبة تنفيذها ومنع أيّ اعتداءات متبادلة.

كان الاتّفاق جزءاً من سلسلة اتّفاقات أبرمتها إسرائيل مع الدول العربية المجاورة بعد حرب عام 1948. على الرغم من مرور 76 عاماً، لا يزال هذا الاتّفاق يشكّل إطاراً قانونيّاً يُعزّز الموقف اللبناني، ولا سيما في ظلّ التحدّيات المستمرّة على الحدود الجنوبية.

استناداً إلى هذا الإطار القانونيّ النموذجيّ القائم بين بلدين عدوّين تحت إشراف الشرعيّة الدولية، عاش لبنان وضعاً مستقرّاً إبّان احترام أحكام اتّفاق الهدنة، ولم يشترك أو يتأثّر بالحرب العربية – الإسرائيلية في الخامس من حزيران 1967، ولم يخسر جزءاً من أراضيه كما باقي الدول المجاورة لإسرائيل. 

بيد أنّه تجب الإشارة إلى عامل مؤثّر آخر أسهم في “حياد لبنان” حينها، ألا وهو التفاهم الإقليميّ – الدوليّ على استقرار لبنان بعد أزمة 1958، الذي كرّسه تفاهم الرئيسين جمال عبدالناصر وفؤاد شهاب، الذي أتاح إضفاء صفة “دولة مساندة” على لبنان (بدلاً من دولة مواجهة). هذا أتاح إبقاءه خارج النزاع العسكريّ مع إسرائيل.

لاحقاً أخذ لبنان الخاضع للّعبة الجيوسياسيّة يدفع ثمن العامل الجديد المتمثّل بصعود المقاومة الفلسطينيّة، وهو ما جعل لبنان “الحلقة الأضعف” إقليميّاً ودفع حكومته لتوقيع “اتّفاق القاهرة” مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة في 1969 الذي تنازل فيه عمليّاً عن سيادته في منطقة العرقوب جنوب لبنان فتحوّلت إلى “فتح لاند”. 

للخروج من المأزق، يمكن للبنان إعلان استعداده للتفاوض مع إسرائيل بوساطة أميركية – فرنسية على أن يعلن بشكل واضح التزامه اتّفاق الهدنة الموقَّع عام 1949

قرارات أمميّة

منذ ذلك الحين تحوّل لبنان إلى ساحة حروب. صدرت سلسلة من القرارات عن مجلس الأمن الدولي (425، 511، 1559 و1701)، لكنّها لم تتّجه نحو التنفيذ إلّا بشكل جزئيّ. أما التطوّر الأهمّ فقد حصل في عام 1983، عقب الغزو الإسرائيليّ للبنان، حين أقدم لبنان الرسمي في عهد الرئيس أمين الجميّل على توقيع اتّفاق مع إسرائيل، منهياً حالة الحرب بين البلدين. وكان ذلك في 17 أيّار.

لم يدُم الاتّفاق طويلاً، إذ أُلغي في 1984 بضغط من سوريا وحلفائها اللبنانيّين. تجب الإشارة إلى اتّفاق الخطّ الأزرق الجزئيّ بعد انسحاب إسرائيل في عام 2000 (لا تزال هناك مناطق متنازع عليها، أبرزها مزارع شبعا المسجّلة أراضي سوريّة في الأمم المتّحدة بسبب عدم اعتراف سوريا بلبنانيّتها، وتلال كفرشوبا والنقاط الـ13 التي يعترض عليها لبنان).

لكنّ الأمم المتّحدة اعتمدت هذا الخطّ الأزرق مرجعاً لترسيم الحدود، علماً أنّ اتّفاق 2022 على الحدود البحريّة لم يتوصّل لحلّ مشاكل الخطّ الأزرق، وأتى ما سُمّي بحرب الإسناد والحرب الاسرائيليّة ضدّ “الحزب” (2023 – 2024) ليزيد الوضع تعقيداً مع احتلال إسرائيل نقاطاً استراتيجيّة في الشريط الحدوديّ ورفض الانسحاب منها حتّى الآن.

لماذا مرجعيّة اتّفاق الهدنة؟  

تأكد مع الوقت فشل كلّ الصيغ المطروحة سابقاً من قرارات دوليّة واتّفاقات. من هنا يرى مراقبون ضرورة المطالبة بالعودة إلى اتّفاق الهدنة، خصوصاً أنّها أداة دبلوماسيّة وقانونيّة تُعطي لبنان ورقة ضغط في المحافل الدولية بعد الحرب الأخيرة التي شهدها. يبدو أنّ ذلك قد يكون الخيار الأكثر فاعليّة لتطبيق القرار 1701 وعدم المماطلة في قرارَي 5 و7 آب 2025 المتعلّقين بحصريّة السلاح بيد الشرعية اللبنانيّة.

إقرأ أيضاً: فرصة لإنهاء الحرب… ماذا عن الدّولة الفلسطينيّة؟

يسود حاليّاً انطباع بأنّ “الاندفاعة الدوليّة بشأن لبنان باتت غائبة، وهناك عدم رضى على السلطة فيه، إضافة إلى مخاوف من تجدّد الحرب”، حسب تقاطع مصادر في واشنطن وباريس. 

للخروج من المأزق، يمكن للبنان إعلان استعداده للتفاوض مع إسرائيل بوساطة أميركية – فرنسية على أن يعلن بشكل واضح التزامه اتّفاق الهدنة الموقَّع عام 1949، والوقف الدائم والنهائيّ للأعمال القتاليّة (وفقاً لأحكام الهدنة واتّفاق 2024)، ليكونا مدخلاً لخروج لبنان النهائي من النزاع المسلّح مع إسرائيل، من دون أن يعني ذلك توقيع أيّ اتّفاق سلام قبل باقي الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة.

مواضيع ذات صلة

نيويورك: من 11 أيلول إلى عمدةٍ مسلم مهاجر

في لحظةٍ تُعيد رسم ملامح الهويّة الأميركيّة، اختارت نيويورك المدينة، التي كانت يوماً رمزاً للجراح بعد 11 أيلول 2001 حين وقف عمدتها رودي جولياني رافضاً…

زهران ممداني الذي هزم ترامب

في زمنٍ تتقلّص فيه المدن الكبرى تحت ثقل اللامساواة والهويّة المنغلقة، يطلّ زهران ممداني الفائز بمنصب عمدة مدينة نيويورك وجهاً جديداً للعصر، يحمل في ملامحه…

“الحزب” يفقد ثلثه

حقيقة ينبغي أن يدركها “الحزب” وقيادته، في بيروت كما في طهران، أنّ “الحزب” خسر ثلاثة أثلاث كانت تشكّل ركائز نفوذه وهيمنته على الساحة السياسيّة في…

“الحزب” يرفض التّفاوض ردّاً على حشر إيران؟

تتراكم المفارقات على طريق رسم المعادلات الجيوسياسيّة في المنطقة. تستبق واشنطن استقبالها أحمد الشرع الإثنين بالتحضير لاستخدام طائراتها لقاعدة جوّيّة جنوب دمشق. قبل ثلاثة أيّام…