على طريقة العرّاب في عالم المافيا، قدّم دونالد ترامب لـ”حماس” عرضاً “لا تستطيع أن ترفضه”. الرفض في هذه الحال يعني الهلاك. وهو ما قاله ترامب حين توقّع للحركة “مصيراً قاتماً” في حال رفضت الخطّة التي وافقت عليها دول عربيّة وإسلاميّة محوريّة وشكّلت غطاءً إقليميّاً دوليّاً لِما اقترحه.
صارت “حماس” بين أن ترفض خطّة البيت الأبيض فتنتحر بمواصلة بنيامين نتنياهو سحقها في مدينة غزّة ومعها الفلسطينيون المدنيون، وبين أن توافق فتوقّع بذلك على صكّ انهيارها، جرّاء الخلافات الداخلية. يُقاس مأزقها بتوزّع ولاء أجنحتها بين 4 عواصم، بينها طهران.
في الشكل تحبط خطّة ترامب هدف نتنياهو احتلال الضفّة بعدما تعهّد لقادة الدول العربيّة والإسلاميّة الثماني التي التقاها بمنعه من ضمّها.
في المضمون جمّدت الخطّة هدف قيام الدولة الفلسطينيّة التي كانت الموجة العالميّة المؤيّدة لمسار الاعتراف بها قطعت شوطاً لا عودة عنه.
مقابل تعهّده بمنع ضمّ الضفّة، أبدى ترامب تفهّمه لرفض نتنياهو قيام الدولة. لم تكن الدول العربيّة والإسلاميّة والأوروبيّة والآسيويّة الـ150، التي أيّدت حلّ الدولتين، تأمل أن ترى النور قريباً. كان همّ القيادة الفرنسيّة – السعوديّة لحملة الاعتراف بدولة فلسطين، على أهمّيّتها المفصليّة، إعطاء أولويّة لوقف الحرب على غزّة.
تراجع هدف التّطبيع
ترك ترامب البحث في اتّفاقات السلام إلى مراحل لاحقة لإدراكه أن لا فائدة من بحث التطبيع بين العرب وإسرائيل فيما الإبادة مستمرّة في حقّ أبناء جلدتهم.
ليس طموح الرجل إلى نيل جائزة نوبل للسلام وحده وراء استعجاله اقتراح الخطّة التي سبق لصهره جاريد كوشنير وطوني بلير أن ابتدعاها، وتقوم على الحوافز الاقتصاديّة وتتجاهل الحقوق الوطنيّة للفلسطينيّين. استطاع نتنياهو إفشال اتّفاقات وقف النار كافّة ونجح في إلقاء اللوم على “حماس”. ساهمت التباينات بين أجنحة “الحركة” حيال مشاريع التسويات في تسهيل مهمّة اليمين الإسرائيليّ باستئناف الإبادة.
ليس رفض “حركة الجهاد الإسلامي” الخطّة بحجّة أنّها تحقّق أهداف إسرائيل سوى صدى لموقف طهران
أضرار تبنّي ترامب للجموح الإسرائيليّ
ثمّة عوامل حفّزت ترامب على اقتراح خطّته:
1- الخطأ الذي ارتكبه نتنياهو بقصف الدوحة والذي أطلق حملة عربيّة إسلاميّة أنذرت بجدّية ابتعاد حلفاء واشنطن التقليديّين عنها. أهمّ الإنذارات كان معاهدة الدفاع المشترك بين السعوديّة وباكستان. كان ذلك مؤشّراً إلى اتّجاه هذه الدول نحو تنويع خططها الدفاعيّة بدل حصرها بالتحالف مع الولايات المتّحدة. لهذا انعكاس جوهريّ على المعادلات الإقليمية. يتساوى قرار مجلس التعاون الخليجي بتفعيل آليّات الدفاع المشترك بين دوله الستّ مع هذا التوجّه.

2- احتاجت واشنطن إلى التمايز عن إسرائيل بعدما صارت المتّهمة بإعطاء الضوء الأخضر بل بالمساهمة في التخطيط للعمليّات الكبرى، التي تقوم بها الطائرات والاستخبارات الإسرائيلية. اقتنع البيت الأبيض أنّ نفيه العلم بالغارة على الدوحة فاقد للصدقيّة. والاستدراك الذي قام به ترامب لاحقاً يثبّت هذه المعادلة، بدليل إجباره نتنياهو على الاعتذار من قطر، إضافة إلى التعويض عن مقتل رجل أمن قطريّ.
الالتفاف على بندَين غير مسبوقَين لقمّة الدّوحة
3- التفّ ترامب بخطّته بشأن غزّة على قرارات قمّة الدوحة العربيّة الإسلاميّة العالية السقف في 15 أيلول. هذه القرارات وقرارات مجلس التعاون الخليجي، التي سبقت مؤتمر نيويورك للاعتراف بدولة فلسطين، وضعت أميركا في موقع شبيه بالعزلة الدوليّة والدبلوماسيّة التي سقطت فيها إسرائيل. حجَب الضجيج السياسي والإعلاميّ حول مؤتمر نيويورك وتفاعلات ضربة قطر اتّخاذ قمّة الدوحة قرارين غير مسبوقين من بين قراراتها المهمّة، وهما:
* البند 15 يدعو جميع الدول إلى دعم الجهود الرامية إلى إنهاء إفلاتها من العقاب ومساءلتها عن انتهاكاتها وجرائمها، وفرض العقوبات عليها… ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصاديّة معها ومباشرة الإجراءات القانونيّة ضدّها.
* البند 16 دعا إلى النظر في مدى توافق عضويّة إسرائيل في الأمم المتّحدة مع ميثاقها، بالنظر إلى الانتهاكات الواضحة لشروط العضويّة والاستخفاف المستمرّ بقرارات الأمم المتّحدة، مع التنسيق في الجهود الرامية إلى تعليق عضويّة إسرائيل في الأمم المتّحدة.
على طريقة العرّاب في عالم المافيا، قدّم دونالد ترامب لـ”حماس” عرضاً “لا تستطيع أن ترفضه”
التّحدّي الأبرز على “حماس”
لهذين البندين مخاطر مستقبليّة على الدولة العبريّة. هناك مقاربتان في قراءة تحفيزهما ترامب على وقف حرب غزّة:
– ترى الأولى أنّه أدرك أنّهما يقضيان على مشروعه بالتطبيع العربي الإسرائيلي إلى غير رجعة، حتّى إذا لم يتمّ تنفيذهما.
– تعتبر الثانية أنّ وقفه الحرب مخرج للدول التي وافقت على هذين البندين كي لا تذهب بعيداً في تطبيقهما.
لا يلغي كلّ ما سبق أنّ التحدّي الأبرز هو على “حماس”، فهل تريد فعلاً وقف الحرب؟
انحصرت اعتراضاتها الأوّلية بلسان “مصادر قياديّة” من دون الجرأة على رفض رسميّ لخطّة ترامب، نظراً لأثمانه الفادحة. الحركة مجرّدة من أيّ هامش للمناورة لأنّ الدول التي كانت ترعى ملاحظاتها في المفاوضات السابقة، مثل مصر، تركيا وقطر، لم تتوقّف عند حجّتها بأنّ نتنياهو عدّل الخطّة خلال لقائه ترامب فرهن انسحاب الجيش الإسرائيليّ بتجريد “حماس” من السلاح واحتفظ بحقّ الإدارة الأمنيّة للقطاع، فالدول الثلاث قبلت بها. وأنجزت مصر بتأييد من أنقرة والدوحة والرياض تدريب 5 آلاف شرطيّ فلسطينيّ كي يتولّوا الأمن في القطاع بالتنسيق مع السلطة الفلسطينيّة.
مأزق الرّفض والقبول
ابتدعت ردود “حماس” حججاً للاحتفاظ بالسلاح، مثلما يبتدع “الحزب” في لبنان الحجج لعدم تسليمه، بدعم من طهران. تُطرح المعضلة نفسها. أثبت السلاح بعد مضيّ سنتين على “طوفان الأقصى” أمرين:
احتاجت واشنطن إلى التمايز عن إسرائيل بعدما صارت المتّهمة بإعطاء الضوء الأخضر بل بالمساهمة في التخطيط للعمليّات الكبرى
– عدم فعّاليّته في تحصيل الحقوق.
– الاختلال الكاسح في ميزان القوى يجب أن يكون حافزاً على تبنّي استراتيجية مختلفة تماماً. فهذا الاختلال أطلق حملة الإبادة المطلوب وقفها.
إقرأ أيضاً: صخرة الرّوشة ولاريجاني: “سناب باك” لمعاقبة لبنان
ليس رفض “حركة الجهاد الإسلامي” الخطّة بحجّة أنّها تحقّق أهداف إسرائيل سوى صدى لموقف طهران. يسود انطباع أنّ ملاحظات “حماس” هدفها كسب الوقت للتوفيق بين أجنحتها الموزّعة على العواصم المختلفة، أو بحجّة التواصل مع قادة الداخل. ليست الحركة في أحسن أحوالها، فحتّى دولة مثل إندونيسيا كانت أعطت تسهيلات لاستثمارات ماليّة لـ”حماس” باتت على جدول الدول التي ستشارك بقوّاتها في تنفيذ خطّة ترامب على أرض غزّة. وكذلك ماليزيا التي وافقت على الخطّة.
لمتابعة الكاتب على X:
