أحدث اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك صدمة جديدة في الولايات المتّحدة، وجعلها أمام لحظة مفصليّة أخرى من لحظات القلق على مستقبلها. ليست خطورة الحدث في مقتل شخصيّة مثيرة للجدل بحدّ ذاتها، بل في رمزيّته داخل بلد غارق أصلاً في انقسامات سياسيّة وثقافية وجيليّة عميقة. الحقيقة الصارخة أنّ أميركا ليست بخير، وخطير أن يتظاهر الأميركيون أو العالم بعكس ذلك.
لسنوات طويلة، انزلقت الولايات المتّحدة إلى دوّامة من الانقسامات المتنامية: انقسام بين الجمهوريّين والديمقراطيّين، بين المدن الكبرى والريف، بين الشعبويّين والنخب، بين المحافظين والتقدّميّين. كشفت حركة “مي تو” توتّرات ثقافية وجيليّة، وعمّقت جائحة كورونا الانقسام بين الحرّية الفرديّة والسلطة العامّة. غذّت قضايا العِرق والجندر والهويّة المزيد من الشحن والتشرذم. واليوم، مع اغتيال سياسيّ جديد، يلوح خطر تطبيع العنف كأداة من أدوات الصراع السياسي.
لا يمكن النظر إلى اغتيال كيرك بمعزل عن تلك الانقسامات. هو امتداد لنمط قاتم في التاريخ الأميركي، من أبراهام لينكولن إلى جون كينيدي، ومن مارتن لوثر كينغ إلى محاولات اغتيال ساسة وقضاة ومرشّحين في العقود الأخيرة. كلّ حادثة من هذا النوع تدفع البلاد خطوة إضافية نحو الهاوية، وتثير مخاوف حقيقيّة من أن يصبح العنف وسيلة “مشروعة” للتعبير السياسي.
أحدث اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك صدمة جديدة في الولايات المتّحدة، وجعلها أمام لحظة مفصليّة أخرى من لحظات القلق على مستقبلها
استعادة أجواء الاغتيالات والاضطرابات
ما تعيشه أميركا اليوم يعيد إلى الأذهان أجواء الستّينيّات، حين عصفت الاغتيالات والاضطرابات العرقيّة والاحتجاجات الشعبيّة بالمجتمع الأميركي. آنذاك، خسر الأميركيون الرئيس جون كينيدي، والزعيم مارتن لوثر كينغ، والسناتور روبرت كينيدي، والناشط مالكوم إكس. رموز قُتلوا في مشهد جسّد حجم الانقسامات في المجتمع. حرب فيتنام، وصدامات الشارع، والانقسامات الأيديولوجيّة ولّدت شعوراً بأنّ الديمقراطية الأميركية على المحكّ.
الخطر اليوم أنّ الولايات المتّحدة دخلت دورة جديدة من العنف والانقسام في وقت تفتقر فيه إلى رصيد من الثقة بالمؤسّسات أو القادة القادرين على توحيد البلاد واحتواء الغضب.
لم يعد السؤال: هل أميركا منقسمة؟ بل: إلى أيّ مدى يمكن أن ينحدر هذا الانقسام قبل أن تتمزّق بنية الديمقراطية ذاتها؟
ما تعيشه أميركا اليوم يعيد إلى الأذهان أجواء الستّينيّات، حين عصفت الاغتيالات والاضطرابات العرقيّة والاحتجاجات الشعبيّة بالمجتمع الأميركي
خطاب التّخوين
اجتاح خطاب التخوين والشيطنة الساحة السياسيّة. تؤجّج المنصّات الإعلاميّة الغضب، وتحوِّل شبكات التواصل الغضب إلى سلاح. مجموعات مسلّحة وأفراد منفلتون يرون أنفسهم “حرّاساً” على وطن مهدَّد.
قدّمت أميركا نفسها لسنوات طويلة نموذجاً للاستقرار والحرّية. أمّا اليوم فصارت تبدو بلداً يلتهمه صراعه الداخليّ. حين يُستهدف قادتها بالاغتيال، تصل رسالة واضحة إلى الحلفاء والخصوم معاً: النظام هشّ، والجمهوريّة العظمى عرضة للانكسار من الداخل.
لهذه الهشاشة تبعات كونيّة. يجد المستبدّون فيها مادّة لتشويه صورة الديمقراطية. يتشكّك الحلفاء في التزامات واشنطن حين تكون سياستها أسيرة صراعاتها الداخليّة. تترنّح الأسواق لأنّ أيّ اهتزاز في أميركا يهزّ النظام العالمي كلّه.
إقرأ أيضاً: محور “الاضطراب” في مواجهة “أميركا أوّلاً”
ربّما الدرس الأهمّ هنا أنّ أميركا لن تكون عظيمة مرّة أخرى إذا لم تتجاوز هذه المرحلة. فالعظمة ليست بقدراتها العسكريّة التدميريّة، ولا بشعارات “أميركا أوّلاً” وحدها. تُبنى العظمة الحقيقية على وحدة الأمّة حول قيمها التاريخية: الحرّية، المساواة، والقدرة على تصحيح مسارها عبر المؤسّسات الديمقراطيّة. تحتاج أميركا إلى أن تكون موحّدة قبل أن تكون “أوّلاً”.
أميركا ليست بخير. وإذا لم تنجح في مداواة نفسها، فلن يكون العالم بخير أيضاً.
لمتابعة الكاتب على X:
