بالفم الملآن قالها الرئيس السوري أحمد الشرع أمام الوفد الإعلامي العربي الذي التقاه في قصر المهاجرين بدمشق يوم الأحد الفائت، معلناً تنازله عن الجراح التي سبّبها “الحزب” في سوريا. هل يلتقط “الحزب” هذه المبادرة فيعلن التنازل عن الأحقاد والأوهام السوريّة التي يعيشها في هذه المرحلة؟
في 22 كانون الأوّل 2024، أي قبل 8 أشهر بالتمام والكمال، صرّح المرشد الإيراني علي خامنئي قائلاً: “أتوقّع أن يشهد المستقبل ظهور مجموعة شريفة وقويّة في سوريا. الشابّ السوري ليس لديه ما يخسره. جامعته غير آمنة، مدرسته غير آمنة، منزله غير آمن، شارعه غير آمن، حياته كلّها غير آمنة. ماذا يفعل؟ يجب أن يقف بقوّة وإرادة أمام أولئك الذين خرجوا لهذه الفوضى وأولئك الذين نفّذوها، وبإذن الله سيتغلّب عليهم”. كان واضحاً تحريض المرشد خامنئي لفئة من السوريّين ضدّ القيادة السوريّة الجديدة مطلقاً عليها اسم “مجموعة شريفة”، وهي عبارة تُذكّر بما أطلقه الأمين العامّ الراحل لـ”الحزب” حسن نصرالله بعد العدوان الإسرائيلي 2006 حين خاطب بيئته وناسه قائلاً: “يا أشرف الناس”.
تصنّف إيران وحلفاؤها، وفي مقدَّمهم “الحزب”، شعوب المنطقة فئتين: الفئة الأولى شرفاء، والفئة الثانية عملاء. وفقاً لهذه المعادلة خيضت حروب وأُسقطت عواصم عربية من بيروت فدمشق إلى صنعاء.
دعوة الرئيس أحمد الشرع إلى أفضل العلاقات بين لبنان وسوريا من دولة إلى دولة تحتاج إلى قناعة لبنانيّة، وتحديداً إلى قناعة “الحزب” وبيئته بأنّ الدولة السوريّة ليست دولة عدوّة بل هي دولة شقيقة. بعبارة أوضح، المطلوب من “الحزب” الخروج من رؤية خامنئي لسوريا والتموضع في موقع المصالح اللبنانية القائمة على أفضل العلاقات مع الجارة سوريا، المنفذ البرّي الوحيد للبنان باتّجاه العالم العربي لأنّ المنفذ الآخر يمسكه عدوّ اسمه إسرائيل.
بالفم الملآن قالها الرئيس السوري أحمد الشرع أمام الوفد الإعلامي العربي الذي التقاه في قصر المهاجرين بدمشق يوم الأحد الفائت، معلناً تنازله عن الجراح التي سبّبها “الحزب” في سوريا
إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء
يسعى المرشد خامنئي منذ سقوط بشّار الأسد إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. هو مسعى مستحيل، والإصرار عليه يلامس العبثيّة قي السياسة والتاريخ والجغرافيا.
خاطب خامنئي ثوّار سوريا الذين باتوا حكّامها اليوم بالقول: “لم تكن هناك قوّة إسرائيلية ضدّكم في سوريا، التقدّم بضعة كيلومترات ليس انتصاراً، لم يكن هناك عائق أمامكم، وهذا ليس انتصاراً، وبطبيعة الحال فإنّ شباب سوريا الشجعان سيخرجونكم بالتأكيد”.
تناسى المرشد في حينه أنّ هؤلاء الثوّار، قبل أن يهرول قاسم سليماني إلى موسكو طالباً نجدة بوتين وجيشه، كانوا على مشارف دمشق وعلى بُعد كيلومترات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة من قصر المهاجرين، حيث كان يتحصّن بشّار الأسد. كان هؤلاء الثوّار قبل قدوم الطائرات الحربية الروسيّة يسيطرون على حلب والقلمون وريف دمشق. وكانوا صامدين في حمص حيث حوّلوا “باب عمرو” إلى أيقونة في الصمود والتصدّي. وتناسى المرشد في حينه أنّ هؤلاء الثوّار عندما اجتاحوا المدن السورية مسقطين بشّار الأسد في عدّة أيّام شاهدوا بأمّ العين ضبّاط الحرس الثوري الإيراني وعناصره وميليشياته المتعدّدة الجنسيّات، من الأفغان والعراقيّين واللبنانيّين، يولّون الأدبار من حماة وحمص وصولاً إلى الحدود اللبنانية، حيث تفاوضوا مع الثوّار أنفسهم لتأمين ممرّ إلى لبنان، وهو أمر حصل بعدما تعهّد الإيرانيون وحلفاؤهم بترك سلاحهم والخروج من سوريا دون سلاح.
نظام بشّار الأسد سقط. ليس لأنّ إسرائيل لم تقف بوجه الفصائل الثوريّة السوريّة. بل لأنّ جيشه تخلّى عنه والحرس الثوري الإيراني وميليشياته وأذرعه فشلوا في الدفاع عنه. وثالثاً، وهو أمر مهمّ، رفعت روسيا يدها عن النظام أو عن مشروع قاسم سليماني الذي بموجبه تدخّلت عسكريّاً في سوريا.
يسعى المرشد خامنئي منذ سقوط بشّار الأسد إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. هو مسعى مستحيل، والإصرار عليه يلامس العبثيّة قي السياسة والتاريخ والجغرافيا
شراء الحياة
يؤخذ على “الحزب” وقياداته منذ عدّة سنوات أنّهم دائماً يصلون متأخّرين إلى الاستحقاقات وقراراتها الملحّة فيتحوّل الإنجاز إلى مأزق والمأزق إلى استسلام.
مدّ الرئيس السوري أحمد الشرع يده إلى لبنان بكلّ فئاته وطوائفه، وتحديداً إلى “الحزب” متنازلاً عن الجراح، وكم هو كثير عدد هذه الجراح! لماذا؟ لأنّه يسعى إلى بناء دولة، ولأنّه أكثر من كلّ ذلك يؤمن بالحياة.
“الحزب” أمام فرصة تاريخية، إن اغتنمها يصحّح الخطأ التاريخي الذي ارتكبه بقتاله في سوريا ومساندته لنظام قاتل تفنّن بإبادة شعبه. ليس هناك من أضرحة في دمشق تستغيث، فمقام السيّدة زينب بعد سقوط بشّار بأبهى حلّة وترابه الشريف يتبرّك به الزوّار بخشوع وإيمان. لا بل تخلّص المزار من تجّار الهيكل وبات واحة للتأمّل والعبادة والصلاة.
“الحزب” مطالَب بالتخلّص من أحقاده ومن أجندات الآخرين والتزامه لها. قد لا تتكرّر الفرصة التي قدّمها الرئيس الشرع غداً ومن المؤكّد أنّها لن تتكرّر، وهنا واجب الإسراع في المبادرة لالتقاطها والبناء على أساسها.
إقرأ أيضاً: إيران تسابق الوقت: التنازل أو الحرب
عند سقوط نظام بشّار الأسد وبعد أيّام من الصدمة الكبرى حاول “الحزب” عبر وسطاء عدّة فتح قنوات اتّصال مع القيادة السوريّة الجديدة فكان التجاوب في تجاوز الماضي والنظر إلى المستقبل. فجأة قطع “الحزب” كلّ المحاولات مقفلاً كلّ القنوات، ليس لأنّ ما كان يسعى إليه مضرّ بمصالح بيئته ووطنه، بل لأنّ ما كان يقوم به يتعارض مع توجيهات المرشد ومشروعه.
“الحزب” مطالَب بالخروج من عباءة الخميني ليس في سوريا وحسب بل في “كفركلا” كما في “دمشق”، وفي الضاحية الجنوبية كما في القصير، لأنّ مصالحه ومصالح لبنان ليست تحت تلك العباءة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يفعلها “الحزب”؟
المسار في الأيام والأسابيع الماضية لا يوحي بالايجابية. فخط تهريب السّلاح من سوريا إلى لبنان لصالح “الحزب” ما زال نشطاً رغم نجاح السلطات السورية بكشف الكثير من عمليات التهريب. كما أنّ الماكينات الإعلامية التابعة لـ”الحزب” أو الدائرة في فلكه، ما زالت تجاهر بالعداء لسوريا وقيادتها الجديدة، ولعل أبرز الأمثلة ما قاله أحد المقرّبين من “الحزب” عند سؤاله عن أوضاع “الحزب” واهتماماته في هذه الايام “الحزب مهتم بملفيّن اليوم، أحداث الساحل السوري وأحداث السويداء…”. وهذا يعني أنّ “الحزب” ما زال يستثمر في المؤامرة على سوريا الجديدة وليس في مدّ خطوط التواصل معها ومع قيادتها.
لمتابعة الكاتب على X:
