الجلوس وانتظار النتيجة المرجوّة بحدّ ذاتهما هما المهمّة البسيطة جدّاً لاجتماع ألاسكا من وجهة نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهو يرى نفسه “قوّةً طويلة الأمد” وشخصيّةً تاريخية، على عكس “القوّة القصيرة الأمد” التي تُميّز الشخصيّات السياسية الغربيّة العابرة، بينما في المقابل يحتاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تحقيق بعض النجاح قبل نهاية ولايته الرئاسية، بل قبل انتخابات التجديد النصفيّ لعام 2026.
أحد السيناريوهات المطروحة لنتائج الاجتماع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، بحسب الباحث الروسيّ ألكسندر باونوف، هو أن يقترح بوتين إخلاء أوكرانيا للأراضي الباقية ممّا يُسمّى جمهورية دونيتسك الشعبية، مقابل وقف فوريّ لإطلاق النار، وحلّ جميع القضايا العالقة الأخرى في مفاوضات لاحقة. هذا يتماشى مع فكرة “القوّة الطويلة الأمد”، وسيُمكّن بوتين من تحقيق مكاسب فوريّة مع تأجيل التزاماته التي لا رجعة فيها إلى وقت لاحق. ففي النهاية، إذا فشلت المفاوضات اللاحقة، فقد تُستأنف الحرب، بينما تكون روسيا قد حصلت دون قتال على ما بقي من دونباس، بما في ذلك مدينتا سلافيانسك وكراماتورسك المهمّتان رمزيّاً وعسكريّاً.
أمّا ترامب فيبدو أنّه يراهن، كما يرى الباحث الروسي، على تكتيك مختلف يتمثّل في اتّخاذ قرارات غير متوقّعة ومزعزعة، مثل دعوة بوتين إلى ألاسكا التي كانت فكرة ثوريّة إلى حدّ ما، لكنّها محافظة بما يكفي لتنال إعجاب الطرفين. فكلا الزعيمين مهووسان بماضي بلدَيهما المجيد. بالنسبة لروسيا، ترمز ألاسكا إلى ذروة التوسّع، وهي المرّة الوحيدة التي امتدّت فيها الإمبراطورية القارّية الروسيّة، مثل إمبراطوريّات أوروبا، عبر المحيط. أمّا بالنسبة للولايات المتّحدة فهي تمثّل العصر الذهبي لشراء المستعمرات لمساحات شاسعة من الأراضي المجاورة.
يعتقد الباحث أنّ من نوايا ترامب مواجهة نهج بوتين التدريجي والجزئيّ والمُستهلِك للوقت بنهجه الثوري في إحياء الماضي
الأراضي مقابل المال..
يعتقد الباحث أنّ من نوايا ترامب مواجهة نهج بوتين التدريجي والجزئيّ والمُستهلِك للوقت بنهجه الثوري في إحياء الماضي. المكان نفسه يذكّر كيف كانت الدول تتبادل الأراضي مقابل المال وأراضٍ أخرى. فإذا كان من الصعب على الأوكرانيين التخلّي عن الأراضي، فضلاً عن المدن والسكّان فيها، فيمكنهم بيعها أو مبادلتها. فهذا هو أصلاً الشكل الذي نشأت به الحدود الحديثة لبولندا وفنلندا واليونان وبلغاريا وتركيا وسلوفاكيا ورومانيا: تبادل الأراضي مقابل السلام.
وفقاً للباحث الروسي، “يخاطر ترامب أكثر من بوتين بموافقته على عقد اجتماع فرديّ مع بوتين قبل أيّ وقف لإطلاق النار. إذا لم يوافق بوتين على وقف إطلاق النار، فستخضع تجارة النفط الروسية لعقوبات ثانوية يتشكّك ترامب نفسه في فعّاليتها. وسيتعيّن عليه مواصلة دعم أوكرانيا بالأسلحة، وإن كان ذلك بأموال أوروبية، أو حتى تزويدها بصواريخ بعيدة المدى، وهذه خطوة نحو صراع مباشر مع روسيا، دون أيّ ضمانات بتحويل دفّة الحرب لمصلحتها. وسيكون من المحرج لترامب مغادرة القمّة خالي الوفاض، ويخشى حلفاء كييف أن يدفعه هذا إلى الموافقة على حيل بوتين المختلفة.
في المقابل، يبدو موقف بوتين عشيّة الاجتماع أكثر ملاءمة، في رأي الباحث. إذ بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية، فإنّ الاتّصال المباشر بزعيم ديمقراطيّ شرعي، وخاصّة الرئيس الأميركي، يُعدّ نجاحاً دبلوماسيّاً، علاوة على دعوة لزيارته. إضافة إلى ذلك، في الدبلوماسية، ليس لدى المعتدي ما يخسره. من خلال عرضه خفض التصعيد دون أن يتعرّض لهزيمة عسكرية، يبدأ ذلك المعتدي نفسه بالظهور كصانع سلام. قد لا يكون ترامب قد استجاب لمطامع بوتين الصغيرة السابقة، لكن سيكون من الصعب رفض شيء أكثر جوهريّة. عندئذٍ ستنتقل المسؤولية عن استمرار الحرب في شكلها الحاليّ إليه بشكل رمزيّ. سيتعيّن عليه الاختيار بين الموافقة على مقترح روسيّ واستغلاله لجرّ روسيا إلى السلام، أو أن يتحمّل الالتزامات والتكاليف ومخاطر استمرار الحرب كطرف رفض الخطوات السلميّة. وقد يتمسّك ترامب بفكرة وقف الهجمات المتبادلة بين روسيا وأوكرانيا فيوفّر على نفسه أسوأ صور الدمار في المدن المأهولة، ويتجنّب الحاجة إلى تزويد أوكرانيا بصواريخ طويلة المدى.
يستبعد الباحث “أن يتخلّى بوتين عن صورة النصر التي تبلورت خلال الحرب: أراضٍ إضافية لروسيا، وحدود جديدة، وحياد لأوكرانيا، وإلغاء قوانين اللغة هناك، ورفع العقوبات المفروضة على روسيا، وما إلى ذلك. ففي النهاية، لا بدّ من تبرير جهود روسيا وتضحياتها، وأصبحت الحرب نفسها رصيداً سياسيّاً داخليّاً مربحاً لكن عرضة للتقلّبات. صحيح أنّ استطلاعات الرأي تشير إلى أنّ هذا لم يؤدِّ إلّا إلى مزيد من الكراهية تجاه كييف ودفع الروس إلى الالتفاف حول زعيمهم، لكنّ المزاج العامّ متقلّب، وعادةً ما تُسجَّل التغيّرات في المزاج العامّ بعد الحدث. لقد أفسحت الصدمة الأوليّة للحرب والأسئلة المطروحة على القيادة الروسية المجال لنوع من الفخر الجماعي بنجاح الشعب الروسي في التغلّب على اختبار العقوبات، و”الإلغاءات”، والانتقادات الخارجية، وهجرة المعارضين والمشاهير. فالحياة مستمرّة: المطاعم والمسارح تعجّ بالزبائن، والبضائع متوافرة بكثرة، والسياحة الداخلية في أوج ازدهارها.
“الوطنية الناعمة” الجماهيرية والشعور بالانتماء للمجتمع هما أيضاً نوع من ردّ فعل على صدمة الحرب
طقوس وحسب؟
غير أنّ هذه “الوطنية الناعمة” الجماهيرية والشعور بالانتماء للمجتمع هما أيضاً نوع من ردّ فعل على صدمة الحرب، وليس هناك ما يضمن، بحسب الباحث، استمرار هذا المزاج إلى الأبد وأن لا يُفسح المجال للأسئلة وحتّى اللوم. وقد تؤدّي استراتيجية بوتين الطويلة الأمد في رفض أيّ اتّفاق سلام إلى نصر قصير الأمد. موقفه التفاوضي اليوم أقوى. ولكن إذا رفض تقديم التنازلات اللازمة لإبرام صفقة، فسيتعيّن عليه الاستمرار في حرب مطوّلة ومكلفة للغاية تحت ضغط متزايد من العقوبات، مع استنزاف فوج تلو الآخر وخراب قرى نائية، وتحويل العقبات المزعجة للحياة السلميّة إلى حرمان طويل الأمد. وقد يفقد الجيش صبره عندما لا تكون في الأفق نهاية واضحة.
يعتقد باونوف الذي خدم خمس سنوات في وزارة الخارجية الروسية أنّ “تفسيراً واحداً فقط لأهداف بوتين في الحرب سيسمح لترامب بصياغة اقتراح لا يقتصر على تنازلات إقليمية لأوكرانيا، وبالتالي لن يُرفض. وعلى الرغم من أنّ بوتين ومرؤوسيه قدّموا تفسيرات متضاربة كثيرة لعدوان روسيا، فمن الأبسط القول إنّهم يقاتلون لعكس نتائج الحرب الباردة: لعودة روسيا إلى مكانة قوّة عظمى كان معترفاً لها بها، مع مجال نفوذ وحقّ فرض الشروط. ولا تزال أهمّ مفاتيح الاعتراف في واشنطن وعواصم غربية أخرى، فالصين أو دول البريكس كلّها ليست كافية لذلك”.
إقرأ أيضاً: مستقبل سوريا في أزقّة دمشق القديمة
في رأيه أنّ “شكلاً معيّناً من الاعتراف بشرعيّة مطالب السياسة الخارجية الروسيّة يمكن نظريّاً أن ينهي حالة الحرب في عقليّة بوتين، وهو ما يقلّل من عدد التنازلات المطلوبة من أوكرانيا. لن يكون من الممكن تجنّب وضعٍ يُكافأ فيه المعتدي، لكن ربّما يكون في إنقاذ ضحيّة ذلك العدوان بعض العزاء، إلى جانب حقيقة أنّ الخطط العدوانية الأوّلية كانت أكبر بكثير. لكن لن يكون من السهل إيجاد المزيج اللازم لتحقيق هذه النتيجة، وقد يكون من الضروري الضغط على بوتين في مرحلة ما”.
يخلص إلى القول: “ليس ما يضمن انعقاد اجتماع ألاسكا، أو خروج المشاركين بنتيجة. خلال ولايته الرئاسية الأولى، التقى ترامب بكيم جونغ أون ثلاث مرّات على أمل مقايضة الاعتراف بإنهاء البرنامج النووي لكوريا الشمالية، لكنّه لم يفكّ اللغز قطّ، وكانت الاجتماعات طقوساً وحسب”.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا
