في 12 من الشهر الحالي، أعلن نتنياهو ارتباطه العاطفي بإسرائيل الكبرى، وهو التصريح الأوضح، بعد إعلان هدفه الاستراتيجي عقب “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، وهو تغيير الشرق الأوسط. وبين الحلم والإنجاز، تضيق الفجوة كثيراً، ويعظُم الخطر.
في شباط عام 1982، أي قبل خمسة أشهر من الاجتياح الإسرائيلي الأعنف للبنان، نشرت مجلة “kivunim” أو “اتّجاهات” الصهيونيّة دراسة للكاتب عوديد ينون، يقترح فيها تقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية وعرقية، وذلك بعدما استعرض الانقسامات والتوتّرات الداخلية الطائفية والعرقية والسياسية بين الأقلّيات والأكثريّات داخل كلّ دولة عربية.
كان لبنان في تلك المرحلة بالون اختبار لخطّة تفتيت الدول المحيطة بإسرائيل، وترافق ذلك مع ظهور آراء أميركية تتماشى مع الفكرة نفسها، أي هشاشة الدول القائمة وإمكان انفراطها، دون أن تكون سياسة رسمية لواشنطن. من هذه الآراء ما هو للمفكّر الاستراتيجي الأميركي البولنديّ الأصل زبغنيو بريجينسكي (توفّي عام 2017)، الذي استشرف انهيار حدود الاستعمار الأوروبي، ومنها حدود سايكس- بيكو، عقب انقضاء الحرب الباردة مطلع التسعينيّات، مستعملاً مصطلح “اللبننة” للدلالة على اتّجاهات التفتّت الطائفي في العراق بعد الغزو الأميركي له عام 2003. أمّا المفكّر الأميركي البريطاني الأصل برنارد لويس (توفّي عام 2018)، فتوقّع انقسام الدول العربية لأنّها برأيه دول مصطنَعة وفاشلة، وذلك في سياق التعليق على ما كان يجري في العراق وسوريا واليمن.
لكنّ الأكثر إثارة للجدل في السنوات الأخيرة، مقال الضابط الأميركي السابق رالف بيترز، والمنشور عام 2006 في مجلّة القوّات المسلّحة Armed Forces Journal، تحت عنوان: “حدود الدم: كيف سيبدو الشرق الأوسط بشكل أفضل”. وفي هذا المقال، خارطة لدويلات مفترضة في الشرق الأوسط تنشأ على أنقاض الدول الحاليّة.
في 12 من الشهر الحالي، أعلن نتنياهو ارتباطه العاطفي بإسرائيل الكبرى، وهو التصريح الأوضح، بعد إعلان هدفه الاستراتيجي عقب “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر
تقاطع أميركيّ إسرائيليّ على تفتيت المنطقة؟
بالطبع، لم يكن تقسيم المنطقة موقفاً رسميّاً في أيّ وقت من الأوقات لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء أكانت جمهوريّة أو ديمقراطيّة، لا سيما تغيير حدود سايكس- بيكو أو تصحيحها في المشرق خاصّة.
لكنّ ما حدث في زمن باراك أوباما كان أخطر بكثير. فهو رعى الربيع العربي، الذي أودى عمليّاً بوحدة ليبيا واليمن، وهدّد بمزيد من التفتّت في السنوات اللاحقة. وإذا اعتبرناه امتداداً للربيع العربي، أي ما جرى في السودان من ثورة شعبية عام 2018 ثمّ اقتتال بين المكوّنات العسكرية، وتقاسم جغرافي بين الجيش وقوات الدعم السريع، وانتصار الثورة في سوريا أواخر عام 2024، وانفجار التوتّرات الطائفية فيها، فنكون حينذاك أمام مشهد كامل يتشكّل فعليّاً، معطوفاً على خطط واستعدادات مسبقة لدى نتنياهو للعثور على اللحظة المناسبة لتنفيذ حلم “إسرائيل الكبرى”، وقد عثر عليها في “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023.
يخطر تساؤل آخر عن الرابط بين هذين المسارين، الأميركي والإسرائيلي، المؤدّيَين إلى الهدف المشترك، وهو توفير أمن إسرائيل، وتوسيع جغرافيتها، على حدّ قول دونالد ترامب عشيّة انتخابه؟ حتّى إنّ المبعوث الخاصّ لترامب إلى سوريا توم بارّاك، في سياق رفض تقسيم سوريا، غرّد في 26 أيّار الماضي، معتبراً حدود سايكس – بيكو مثالاً على الحدود “الوهميّة” المفروضة لتحقيق مكاسب إمبرياليّة. وقال: “قبل قرن، فرض الغرب خرائط، وحدوداً مؤقّتة، وحكماً أجنبيّاً، لمصلحة الإمبرياليّة، وليس من أجل السلام. ذلك الخطأ كلّف الأجيال الكثير. لن نكرّره.”
لم يكن تقسيم المنطقة موقفاً رسميّاً في أيّ وقت من الأوقات لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء أكانت جمهوريّة أو ديمقراطيّة
جاء كلام بارّاك متزامناً مع تسريبات عن عرض إسرائيلي إلى الإدارة الجديدة في سوريا، مفاده: تخلّي دمشق عن المنطقة الجنوبية من سوريا مقابل الاستحواذ على مناطق لبنانية ذات أغلبية سنّيّة. وتعزّزت مقولة ذوبان لبنان، بتصريح لاحق لبارّاك، حذّر فيه من اندماج لبنان في ما سمّاه بلاد الشام، إذا استمرّ حكّام لبنان في سيرهم المتباطئ لحلّ المشكلات العالقة، لا سيما سلاح “الحزب” ولم يوفّق بارّاك لاحقاً حين حاول “تصحيح” ما أراده من أقواله.
سَبَق كلُّ هذا الكلام الإشكالي الحوادثَ الدموية في محافظة السويداء، التي أعلنت القيادة الروحية فيها نيّة الاستقلال عن سوريا، والارتباط استراتيجيّاً بإسرائيل. وإذا كان الموقف الدرزي مفاجأة غير متوقّعة للوهلة الأولى، فإنّ المطّلع على تاريخ العلاقة المضطربة بين السويداء وأيّ حكم مركزي، سواء في إستانبول أو دمشق، وخطط إسرائيل في الثمانينيات لإنشاء دولة درزيّة هناك، على ما كشفه الصحافي محمد خالد القطمة في كتابه: “قصّة الدولتين المارونية والدرزية“، يدرك مدى جدّية المشروع التقسيميّ، الذي بلغ مرحلة متقدّمة في هذه الآونة، مع إصابة دول عربية مركزية بهذه النزعة، ولن تكون سوريا آخر المطاف. بل إنّ الخطر ليس بعيداً عن إيران التي حاول نتنياهو إسقاط النظام فيها في حرب الـ12 يوماً بين 13 و24 حزيران الماضي، وتفتيت الدولة، ولا عن تركيا التي تعاني من نزعة انفصالية كردية قديمة. وهذا تحديداً ما دفع الدولة العميقة في أنقرة إلى التحرّك الفوريّ لاستيعاب المسألة الكرديّة بالتي هي أحسن، بل إنّ الرئيس التركي إردوغان كان سبّاقاً عقب “طوفان الأقصى” إلى استشراف الخطر الإسرائيلي المقبل على بلاده، وربّما كان يشير إلى التواصلات الإسرائيلية التاريخية مع الزعماء الأكراد.
إقرأ أيضاً: قمّة ألاسكا: أوروبا مذعورة من اتّفاق الكبار
سيناريو التّهجير والتّقسيم
أمّا العلاقة المباشرة بين تهجير الفلسطينيين في وقت ما وتقسيم المنطقة تلقائيّاً، فيمكن لحظها في المواقف الإسرائيلية المعلنة وفي السياسات العمليّة:
– إنّ حكومة نتنياهو تدرك أنّ تكرار “الترانسفير” الآن بعد ثلاثة أرباع القرن على “الترانسفير” الأوّل عقب تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، ليس مستساغاً دوليّاً، حتّى لدى الحلفاء الموثوقين في الغرب. لذا بدأت التحرّك لنشر عدوى الانفصال مبكراً في المنطقة، وتركّز حاليّاً على دول الطوق، ابتداء من سوريا المنهكة. ولو نجحت في فصل السويداء، فسيمتدّ السيناريو إلى لبنان، إحياء لمشروع الدولة الدرزية من جبل الدروز إلى البحر المتوسّط، مع ضمّ الشوف، والوصول إلى منفذ بحريّ في الجيّة. وهذا يعني تلقائياً تفجير لبنان وتشقّقه، مع ميل جزء من البقاع والشمال إلى سوريا، وانحصار الشيعة وحصارهم، وعزل المسيحيين في رقعة ضيّقة. وفي هذا، تصيب عدّة عصافير بحجر واحد.
– تغيير خارطة سوريا ولبنان، وهو الملفّ الساخن اليوم، يفسح في المجال أمام تحريك موازٍ للخارطة على الحدود الشرقية والجنوبية لإسرائيل، ابتداء من احتلال قطاع غزّة وطرد سكّانه، بعد تجويعهم، تحت عنوان: “الهجرة الطوعية”، وهو ما سيصيب مصر بمعضلة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنيّة وعسكرية ليس من السهل تجاوزها. وبعد ذلك، تعلن إسرائيل ضمّ الضفّة الغربية وقطاع غزّة بموافقة أميركية، ويبدأ التضييق على السلطة الفلسطينية إلى أن تنهار، وتبدأ التغريبة الكبرى إلى الضفّة الشرقية من نهر الأردن، كي يختلّ التوازن الدقيق في هذه الدولة الأردنيّة، بما يؤدّي إلى الصدام.
ليست المرّة الأولى التي تنتعش فيها هذه الأفكار التقسيمية وكذلك ليست المرّة الأولى التي يطرح فيها نتنياهو خرائطه الجديدة للمنطقة إذ أنّه فعل ذلك قبلاً على منبر الأمم المتحدة في نيويورك حيث عرض خريطته عبى أعلى منبر دولي. لكن الأيام والسنوات تثبت أن هذه الأفكار ليست “قدراً” للمنطقة وأنّ الإدارة الأميركية مدعومة بجهد إإقلبمب وعربي جدّي منعت نتنياهو من تحقيق أحلامه أولاً في لبنان بعد الحرب الأهلية التي انتهت بالعودة إلى الدولة الواحدة وثانياً العراق بعد الاجتياح الأميركي في العام 2003، وبقيت الدولة الواحدة هي الحقيقة رغم الشهوات أكثر من مكوّن عراقي للتقسيم.
لمتابعة الكاتب على X:
