إذا كان “الحزب” قد وقّع بنفسه على اتّفاق وقف إطلاق النار الذي يمنعه من شنّ أيّ عمل هجومي ضدّ إسرائيل، فأيّ معنى يبقى لسلاحه خارج إطار الدولة، وأيّ مبرّر لرفضه قرار الحكومة اللبنانية بسحب السلاح من جميع القوى غير الشرعية؟ ولماذا كلّ هذا الضجيج حول السلاح؟
في اتّفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل الذي أُعلن في تشرين الثاني الماضي، ورد بند موجز وواضح يُغني عن كلّ الجدال الدائر حول مصير السلاح. الغريب أنّه وسط الخطابات الصاخبة عن سحب السلاح لم يتطرّق أحد إلى هذا البند الذي جاء فيه: “الحزب وجميع الجماعات المسلّحة الأخرى في الأراضي اللبنانية لن تقوم بأيّ عمل هجوميّ ضدّ إسرائيل”.
هذا البند الذي وافق عليه “الحزب” هو حدث تاريخي كبير، ليس لأنّه يعني توقّف “حرب الإسناد” التي دارت منذ 8 تشرين الأوّل 2023 وخلّفت دماراً وخسائر جسيمة واغتيالات مدوّية، بل لأنّه يعني نهاية المقاومة من أرض لبنان لأوّل مرّة منذ سنة 1969. فلا مقاومة فلسطينية بعد الآن، ولا مقاومة وطنية لبنانية ولا مقاومة إسلامية، ولا سلاح يوجّه بعد اليوم إلى إسرائيل انطلاقاً من لبنان.
لو كان المسؤولون الإيرانيون حريصين حقّاً على لبنان وعلى “الحزب” وبيئته، لقرأوا بعمق ورويّة، كعادتهم، مذكّرة مبعوث الرئيس الأميركي توماس بارّاك إلى الحكومة اللبنانية
الاقتتال الدّاخليّ؟
فما هي الحاجة بعد ذلك إلى السلاح، وكلّ سلاح خارج الدولة؟ هناك وظيفة وحيدة تبقى للسلاح، وهي الاقتتال بين اللبنانيّين، الذي تقول كلّ الفئات إنّها لا تريده. إذاً من الطبيعي أن تقرّر الدولة سحب السلاح من الجميع.
ما إن اتّخذت الحكومة اللبنانية قرار سحب السلاح من التنظيمات غير الشرعية حتّى انتفض “الحزب” غاضباً مهدّداً، متجاهلاً الاتّفاق الذي وافق عليه. بموازاة ذلك، انبرت شخصيّات رئيسية في النظام الإيراني لتعترض على القرار وتدافع عن حقّ “الحزب” بالحفاظ على سلاحه.
لو كان المسؤولون الإيرانيون حريصين حقّاً على لبنان وعلى “الحزب” وبيئته، لقرأوا بعمق ورويّة، كعادتهم، مذكّرة مبعوث الرئيس الأميركي توماس بارّاك إلى الحكومة اللبنانية، ولنصحوا “الحزب” بالموافقة عليها دون تردّد لأنّها تتضمّن العناصر الأساسية التي تنهي الصراع المدمّر مع إسرائيل، وتلبّي المطالب اللبنانية الأساسية. فقد تضمّنت أهداف المذكّرة، التي وافقت عليها الحكومة، انسحاب إسرائيل من كلّ الأراضي اللبنانية، وانتشار الجيش اللبناني حتّى الحدود الدولية، ووقف جميع الانتهاكات والأعمال العدائية، وعودة المدنيين في القرى والبلدات الحدودية إلى منازلهم وممتلكاتهم، ودعم الجيش وقوى الأمن الداخلي وعقد مؤتمر اقتصادي لدعم الاقتصاد اللبناني وإعادة الإعمار. كلّ ذلك مقابل ثمن متّفق عليه، وهو سحب السلاح من جميع القوى غير الشرعية، بما فيها “الحزب”.
لكنّ إيران لم تتعوّد أن تنظر إلى المسائل الإقليمية بهذه النظرة المجرّدة والموضوعية، بل ترى حلفاءها وجيرانها العرب وسائلَ لخدمة مشروعها الكبير الذي أحياه الإمام الخميني، وهو تأسيس الإمبراطورية الفارسية الكبرى، التي تشمل العراق وسورية ولبنان لكي تصل إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسّط. إلّا أنّ هذا الحلم الإمبراطوريّ يصطدم بعقبات وعوائق تضعف إيران في مفاوضاتها المحتملة مع الولايات المتّحدة الأميركية.
أبرز العقبات هو الوضع الاقتصادي الضعيف لإيران وترهّل هيكلها الاقتصادي على الرغم من أهمّية قطاع الهيدروكربونات
لا تحمي السّلاح بل تحتمي به
أبرز العقبات هو الوضع الاقتصادي الضعيف لإيران وترهّل هيكلها الاقتصادي على الرغم من أهمّية قطاع الهيدروكربونات. فهي تحلّ في المرتبة الثانية عالمياً في احتياطات الغاز الطبيعي والمرتبة الرابعة في احتياطات النفط الخام المؤكّدة. وفي حين أنّ قاعدتها الاقتصادية متنوّعة نسبياً بصفتها بلداً مُصدّراً للنفط، إلّا أنّ النشاط الاقتصادي والإيرادات الحكومية تعاني من التقلّبات الشديدة بسبب الاعتماد المفرط على عائدات النفط. إنّ الصدمات الخارجية، بما فيها العقوبات الغربية الصارمة، وتقلّب أسعار السلع الأوّليّة تؤدّي إلى ضعف النموّ الاقتصادي ووصول التضخّم إلى أكثر من 40% وانخفاض القوّة الشرائية للأسر الإيرانية بشكل كبير، ولم يكن خلق الوظائف كافياً لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الشباب والمتعلّمين، على حدّ ما ورد في تقارير البنك الدولي.
إقرأ أيضاً: حصرية السلاح: نهاية الاحتلالَين.. الإسرائيليّ والإيرانيّ
إيران المتخلّفة اقتصاديّاً وتكنولوجيّاً والتي تعرّضت لضربة عسكرية كبيرة وخسرت معظم أذرعها التي أنفقت عليها مئات مليارات الدولارات، تتمسّك بما بقي من هذه الأذرع لكي لا تتعرّى من كلّ أشكال القوّة في مفاوضاتها مع إدارة ترامب. فإيران تحتمي ببقايا النظام الإقليمي الذي بنَته.
إنّها بحملتها على قرار الحكومة اللبنانية لا تحمي سلاح “الحزب” بل تحتمي به، وتسعى في الوقت نفسه إلى منع انهيار المنظومة الأمنيّة الحليفة لها في العراق، التي تترنّح وسط تقلّص النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين.
