ما هو الإصلاح الديني المطلوب في المجال الإسلامي؟ ومن هي الجهة الصالحة لهذه المهمّة؟ وهل ما يتواتر اليوم هو إعادة بناء أو محاولة هدم؟
في أوّل وآخر حصّة دراسية شهدتها مع الشيخ الدكتور صبحي الصالح، في رحاب كلّية الدعوة التابعة لدار الفتوى قبل أن تصبح كلّية الشريعة، قال العلّامة الضليع في اللغتين العربية والفرنسية معاً: “في الدين اتّبعْ ولا تبتدعْ. أمّا في غير الدين، فابتدعْ وأبدعْ ما شئت أن تُبدعه”.
كان ذلك قبل عامين من اغتياله في بيروت، في 1986، برصاصات غادرة. والمفارقة أنّني تلقّيتُ نبأ اغتياله وأنا في دمشق، وكنت أُراجع في كتابه “مباحث في علوم القرآن“، قبيل الخضوع لامتحان ذاك اليوم، في كلّية الدعوة بدمشق، التابعة للمفتي الراحل أحمد كفتارو (توفّي عام 2004)، فيما المُتّهم باغتياله عملاء النظام “التقدّمي، العلماني” في دمشق.
الشاهد في الأمر أنّ الدكتور الشهيد، المشهود عنه حواراته العميقة ومطالعاته الواسعة، وقربه الشديد من ثقافة الغرب، لم يخرج على الأمّة باقتراحات وتعديلات وتحويرات وتصحيحات على أحكام الشريعة، بدعوى الإصلاح الديني، بل انشغل بخدمة العلم والثقافة بمداها الإنساني الواسع.
ما هو الإصلاح؟
قبل البحث في مطارحات الإصلاح الراهنة، التي تكاثر روّادها في السنوات الأخيرة، لا بدّ من إطلالة على المصطلح نفسه وما يعنيه، ارتباطاً بما يسري من مصطلحات غربية تنال المعنى نفسه أو ما يقاربه في اللغة العربية. فهل هو “reformation” أم “revivalism” أم “reconstruction”؟ المعاني الحرفيّة لتلك المصطلحات هي على التوالي: “إعادة تشكيل”، “إحياء”، و”إعادة بناء”.
لكنّ ما هو متعارف عليه في التاريخ الديني المسيحي، هو حركة الإصلاح Reform movement، التي قام بها مارتن لوثر (توفّي عام 1546)، والتي قصد بها تصحيح ممارسات السلطة الدينية الكاثوليكية، بل التحرّر من سلطتها، وتحرير المؤمنين من التفسير الرسمي للإنجيل، فبات كلّ قارئ له حرّاً بتفسير تعاليمه.
اعتبر المفكّر الباكسناني فضل الرحمن مالك أنّ العلماء المسلمين على مدى القرون شوّهوا الدين بتفسيراتهم
التّجديد في الدّين
أمّا المصطلح الشائع في التراث الإسلامي فهو التجديد في الدين، وليس إصلاحه، والمصطلح الغربي المناسب له هو: “revivalism”، وقد ورد في الحديث النبويّ: “يبعث الله على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لها دينها”. أمّا الإصلاح فيكون لأعمال البشر، وجاء في حديث آخر: ” بدأ الإسلام غريباً ثمّ يعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: الذين يُصلحون إذا فسد الناس”.
من المفارقة أنّ كتاب الشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال (توفّي عام 1938)، في الفكر الإصلاحي الإسلامي، حمل عنوان: “The Reconstruction of Religious Thought in Islam”، والمعنى الحرفيّ للعنوان هو: إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام. وتُرجم العنوان في النسخة المترجمة إلى العربية هكذا: تجديد الفكر الديني في الإسلام. فهل إعادة البناء من جديد هو تجديد؟ وهل يكون البناء على القواعد ذاتها؟
يعتبر إقبال في كتابه المشهور ابن تيمية (توفّي عام 1328) ومحمّد بن عبدالوهاب (توفّي عام 1792) من المجدّدين. فالأوّل ثار على جمود الفقهاء في عصره، وفتح باب الاجتهاد بقوّة استدلالاته. والثاني ثار على البِدع والخرافات في زمانه، واستعمل العنف في سبيل إزالة المنكر.
لكنّ ما رآه الفيلسوف إقبال صاحب فكرة استقلال مسلمي القارّة الهندية في بلد سُمّي باكستان، قد لا يوافقه عليه كثير من العلماء أو العلمانيين أنفسهم. وهذا دليل واضح على أنّه لا توجد فكرة واضحة عن معنى الإصلاح الديني، سواء قبل سقوط الدولة العثمانية قبل قرن، أو بعد سقوطها. فالثلاثة جمال الدين الأفغاني (توفّي عام 1897) ومحمد عبده (توفّي عام 1905) ومحمد رشيد رضا (توفّي عام 1935) كانوا رفاق التيّار الإصلاحي آنذاك، وكلّ واحد منهم له نظرته الخاصّة:
تتلاحق الدعوات إلى ما يسمى بـ”الإصلاح الديني” في العالم العربي خاصة، وآخرها ما جاء على لسان الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي
اهتمّ الأفغاني بالإصلاح السياسي للدولة العثمانية، واهتمّ عبده بالإصلاح التربوي ولو تحت الاحتلال الإنكليزي لمصر، وخصّ رضا الإصلاح الفقهي باهتمامه مع اهتماماته السياسية. تختلف الأولويّات الإصلاحية من شخص لآخر، وأوجه الإصلاح تختلف أيضاً.
دعوات للقطيعة مع التّراث الإسلاميّ
في القرن الماضي، برز كُتّاب حداثيّون يدعون إلى القطيعة تماماً مع التراث الإسلامي والالتحاق بالغرب، مثل المفكّر المغربي عبدالله العروي. ومنهم من حاول تفسير النصوص الإسلامية بمنهجية تاريخية، وقد تجاوزها الزمان، مثل المفكّر الجزائري محمد أركون (توفّي عام 2010)، وثمّة من سلك منهجاً انتقائيّاً مثل المفكّر المغربي محمد عابد الجابري (توفّي عام 2010)، الذي اختار الفيلسوف ابن رشد (توفّي عام 1198) ليكون عنوان الإصلاح والتجديد في زماننا.
لكنّ المفكّر الباكستاني فضل الرحمن مالك (توفّي عام 1988) ذهب باتّجاه آخر، حين تبنّى المنهج البروتستانتي في إصلاح الإسلام، إذ اعتبر أنّ العلماء المسلمين على مدى القرون شوّهوا الدين بتفسيراتهم، وأنّ الحلّ يكون بالقفز في الزمان إلى حقبة النبوّة، والنهل من النبع الصافي للإسلام، ثمّ العودة إلى الوقت الراهن لتطبيق الإسلام بالطريقة الصحيحة.
نسف الشّريعة من الدّاخل
في العقود الأخيرة، ظهر اتّجاه مختلف جذريّاً من الإصلاح، وهو يحاول نسف شريعة الإسلام من داخله، تارة بتبديل معاني الكلمات كما فعل المهندس محمد شحرور (توفّي عام 2019)، وطوراً بمحاولة هدم رمزيّة شخصيّات وكتب، مثل الصحابة، وصحيح البخاري، وصولاً إلى تشويه أبطال تاريخيين مثل صلاح الدين الأيّوبي. وانبرى مجدّداً تيّار القرآنيّين الذين لا يعترفون بالحديث النبوي، لكنّ القرآن يضمّ كلّ الأحكام الشرعية القطعيّة والواضحة من حدود وميراث وجهاد ومواقف من أهل الكتاب ومن الوثنيين.
ما هو أكيد أنّ الطعن في ثوابت الفكر والدين بهذه الطريقة يعرقل فقط ظهور أفكار التجديد الحقيقي
يحاول آخرون تأويل تلك الأحكام القطعيّة الثبوت والدلالة بما يناقضها صراحة. وبالإجمال، هل يستطيع هؤلاء من خارج المؤسّسة الدينية الرسمية أو من التيّار العريض لعلماء الأمّة تغيير الأحكام تحت عنوان الإصلاح؟ ما هو أكيد أنّ الطعن في ثوابت الفكر والدين بهذه الطريقة يعرقل فقط ظهور أفكار التجديد الحقيقي.تتلاحق الدعوات إلى ما يسمى بـ”الإصلاح الديني” في العالم العربي خاصة، وآخرها ما جاء على لسان الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، ويكثر “المُصلحون”، وتتضارب منهجياتهم، وتزداد غموضاً كلما حاولوا إيضاح مكنوناتهم. لكن ما يجمعها كلها هو همّ واحد، ويحدوهم على اختلافها هدف واحد، وهو اللحاق بالغرب وحداثته، ونفي كلّ تمايز بين الإسلام، ومنظومة العالم الفكرية والثقافية السائدة. هو السعي المحموم للاندماج الكامل بالنظام العالمي، لا فقط سياسياً واقتصادياً وثقافياً كما هو الحال الآن، بل تبقى خطوة أخيرة، لتعديل الإسلام، وتطويعه، فلا يبقى عقبة كأداء في مسيرة التحديث.
إقرأ أيضاً: “قانون الفراغ” يُكمل ابن خلدون أم يطيح به؟ (1-2)
لكنّها لم تتوقّف يوماً على مدى قرون، على شكل استنهاضات يقوم بها علماء كبار، فيثورون على تقليد جامد، أو على بدعة راسخة، أو على وهن أصاب الأمّة في لحظة تراخٍ سياسي، وهي بمعنى مختلف تماماً عن الدعوات الحالية لإصلاح الخطاب الديني، أو لتعديل أحكام الشريعة بتعبير أدقّ، ومحاولة نسف أصول الأحكام والاجتهادات الفقهية. وهو ما يطرح السؤال عن ماهيّة المصطلح نفسه، وما يعنيه حقّاً في أذهان الداعين إليه.
لمتابعة الكاتب على X:

