يمكن للمودعين أن يستبشروا بإقرار مشروع قانون “إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها” في مجلس الوزراء السبت الماضي، في أكبر نقطة تحوّل في تعاطي الدولة مع مفاعيل أزمة 2019، إذ إنه، في حال إقراره في مجلس النواب، سيتيح القانون للمرة الأولى فهم ما يجري في البنوك، وفرزها ما بين متعثر بسبب الأزمة النظامية ومتعثر بسبب الفساد أو سوء الإدارة.
جوهر مشروع القانون يكمن في إعادة تشكيل الهيئة العليا المصرفية بصلاحيات موسّعة في تقييم موجودات المصارف، وفرض إجراءات إعادة هيكلتها أو دمجها أو شطبها. وكانت المسودة الأولى من مشروع القانون تنصّ على إنشاء هيئة مختصة جديدة لدى مصرف لبنان لتتولى مهام “إعادة الهيكلة”، مع هيمنة طاغية لمصرف لبنان عليها، بحيث تتشكل من الحاكم رئيساً، ونوابه الأربعة وثلاثة خبراء، قانوني ومالي/ مصرفي، واقتصادي.
حسناً فعل مجلس الوزراء أن عدل عن هذه الفكرة، وآثر إحياء “الهيئة المصرفية العليا” مع تعديل تشكيلتها، لتتكون من حاكم مصرف لبنان وواحد من نوابه الأربعة يختاره المجلس المركزي، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، ورئيس مؤسسة ضمان الودائع، وثلاثة خبراء يقترحهم وزراء العدل والمالية والاقتصاد. بذلك يكون مصرف لبنان ممثلاً في الهيئة بعضوين من أصل سبعة، بدلاً من خمسة أعضاء من أصل ثمانية وفق المسودة الأولى. وهذا مهمٌّ لضمان درجةٍ أعلى من الاستقلالية والحوكمة فيها، واستعادة الضوابط والتوازنات (checks and balances) في المنظومة الرقابية، بعد عقودٍ من الهيمنة المطلقة لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة على هذه المنظومة بكل عناصرها، من المصرف المركزي إلى المجلس المركزي لمصرف لبنان، إلى لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا.
كانت المبادئ الإصلاحية التي أعلنها الحاكم الجديد كريم سعيد عالية السقف، وقد يكون في حسبانه تصغير ميزانية مصرف لبنان
دراسة وضع كل مصرف
ستتولى الهيئة المصرفية العليا المهمة الأخطر في دراسة وضع كل مصرف، بعد تقييم موجوداته ومطلوباته، واتخاذ القرار بشأن إصلاحه أو تصفيته، بالاستناد إلى تقرير تعدّه لجنة الرقابة على المصارف، وتوصية منها في شأن الإجراءات الإصلاحية المطلوبة، إما بالإنقاذ الداخلي (bail-in) عبر رسملة الديون، وإما عبر ضخ رأسمال جديد من المساهمين أو من خلال مستثمرين جدد، وإما عبر الدمج.
لدى الهيئة صلاحيات واسعة تغنيها عن موافقة مساهمي البنك (الجمعية العمومية) على قرارات أساسية، من ضمنها تعيين مدير مؤقت للبنك، أو إقالة أو استبدال أعضاء مجلس الإدارة والإدارة العليا، أو إلزام المصرف ببيع أصول أو وقف بعض العمليات، أو تغيير هيكليته القانونية أو المالية. والأهم أنّ بإمكان الهيئة فرض استرجاع أموال مسددة لأعضاء مجلس الإدارة أو الإدارة العليا بشكل مخالف للقوانين أو التعاميم أو قواعد الحوكمة، وذلك عن فترة عشر سنين سابقة. كما في إمكانها رفع دعاوى ضدّ كبار المساهمين وأعضاء مجلس الإدارة والإدارة العليا في حال الاشتباه بتورطهم في جرم مدني أو جزائي.
هذه الصلاحيات في غاية الأهمية للمحاسبة عما جرى قبيل الأزمة، وخصوصاً بعدها. إذ إنّ هناك الكثير من الروايات المتداولة لمصارف تمّ تهريب أصولها والأصول المرهونة لديها إلى بعض النافذين، فيما التفّت بنوكٌ أخرى على التعاميم التي تمنع توزيع أنصبة أرباح على المساهمين منذ 2019، فتسرّبت الأموال إلى المساهمين والإدارات العليا على شكل مصاريف تشغيلية.
لعلّ أهم ما في القانون أنه ينظّم عملية إجراء التقييم لموجودات المصارف ومطلوباتها
تنظيم عملية التقييم
لعلّ أهم ما في القانون أنه ينظّم عملية إجراء التقييم لموجودات المصارف ومطلوباتها، مع إبقاء بند معلّق هو موجوداتها لدى “مصرف لبنان”، باعتبار أنّ هذا البند سيتم حسم أمره في قانون الفجوة المالية الذي هو جوهر الموضوع. لكن البند المعلّق لا يقلّل على الإطلاق من إجراء عملية التقييم لسبب جوهري هو أنّ التقييم سيحدّد وضع البنوك المفلسة حكماً بغض النظر عما سيؤول إليه احتساب الموجودات لدى مصرف لبنان.
بكلام آخر، ثمّة بنوك ستظل مفلسة حتى لو دفع لها مصرف لبنان 100% من مستحقاتها، لأنّ لديها مشاكل أخرى في الملاءة، فيما هناك مصارف تستطيع الاستمرار حتى لو اضطرت إلى اتخاذ مؤونات (مخصصات) بنسبة 50% أو أكثر، لقيمة موجوداتها لدى مصرف لبنان.
بكلام آخر، سيؤدّي تطبيق هذا القانون إلى فرز أزمات المصارف بين ما هو عائد إلى الأزمة النظامية المتدليّة من الدولة على مصرف لبنان إلى القطاع المصرفي، وما هو عائد إلى سوء الإدارة والفساد في البنوك. وتلك الإجراءات هي أولى متطلبات فهم أوضاع المصارف، كل على حدّه، تمهيداً لوضع خطط إعادة الهيكلة على مستوى القطاع المالي ككل، وعلى مستوى كل مصرف على حدّه، على الطريق نحو إعادة الودائع أو ما أمكن منها.
العبرة بالتفويض السياسي
إلا أنّ من المهم الإشارة إلى أنّ القانون بحد ذاته لا يغيّر شيئاً ما لم يتغيّر المناخ السياسي الذي كان يمنع المحاسبة. فالهيئة المصرفية العليا كانت موجودة، وكان تمثيل مصرف لبنان فيها مماثلاً لمشروع القانون الجديد (الحاكم وأحد نوابه)، وكانت لديها صلاحيات واسعة تصل إلى حدّ شطب المصرف المخالف، لكن تلك الصلاحيات لم تغيّر شيئاً. فالعبرة الآن بأسماء من يشغلون عضوية الهيئة وحدود التفويض السياسي الممنوح لهم للضرب بيد من حديد.
يمكن للمودعين أن يستبشروا بإقرار مشروع قانون “إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها” في مجلس الوزراء السبت الماضي
تبقى إشكالية أخيرة تتعلّق بمصرف لبنان. إذ كيف يتم تقييم وضع المصارف ولا يتم تقييم وضع مصرف لبنان، وهو المتعثر الأكبر في الجمهورية؟ وكيف يتولى مصرف لبنان دوراً رقابياً على بنوكٍ هو مطلوب لها بمستحقات يتخلّف عن سدادها، حتى يصح فيه القول “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”؟
إقرأ أيضاً: صندوق للتّعافي يعيد الودائع وينظّف مصرف لبنان
كانت المبادئ الإصلاحية التي أعلنها الحاكم الجديد كريم سعيد عالية السقف، وقد يكون في حسبانه تصغير ميزانية مصرف لبنان، بعد سنوات من الانفلاش المبالغ به، ليعود إلى التركيز على وظيفته الأساسية كضامن لاستقرار الأسعار والاستقرار النقدي وناظم رقابي على القطاع المصرفي، وهذا يتطلب إخراج توظيفات البنوك لدى مصرف لبنان إلى كيانٍ جديد، أقله للتخفيف من تعارض المصالح بين “مصرف لبنان” الخصم، و”مصرف لبنان” الحكم.
لمتابعة الكاتب على X: