نصر الخرطوم وسيناريوهات التّقسيم في السّودان

تكشف أنباء الميادين في السودان خلال الأشهر الأخيرة عن انقلاب في موازين القوى العسكرية لمصلحة الجيش السوداني بقيادة عبدالفتّاح البرهان. لكنّ الأيام والساعات الأخيرة أفرجت عن تطوّرات حسمٍ إثر سيطرة الجيش على مراكز حيوية، وفي مقدمها المطار والقصر الرئاسي، بما يشي بقرب السيطرة الكاملة على العاصمة، بمدنها الثلاث: الخرطوم، الخرطوم بحري وأمّ درمان. ولئن يمثّل الأمر إنجازاً ميدانياً، وخصوصاً معنويّاً لجهة استعادة عاصمة الدولة ورموزها الحكومية، غير أنّ التطوّر يشرّع الأبواب على سيناريوهات لا يُستبعد أن يكون تقسيم البلد أحدها.

 

تجري المعارك منذ بداية الصراع في نيسان 2023، من دون مواقف دولية واضحة في اصطفافها. يستفيد الطرفان، الجيش من جهة، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من جهة أخرى، من تنافس حسابات إقليمية ودولية للحصول على دعم أطراف خارجية ظلّت مواقفها الرسمية ضبابية، وإذا ما كان سلاح هذا الخارج المستخدم في الصراع السوداني يقول قولته، فإنّ لهذا الخارج الرأي والقرار في القبول بوقائع الميدان أو استمرار العمل على رفضها وتغييرها.

لطالما ردّد السودانيون أنّ لبلدهم، بما يملكه من خيرات وموارد وموقع جيوستراتيجي، أهمّية كبرى تسعى أطراف الخارج إلى التقليل منها. يعتبرون أنّ امتلاك السودان القوّة والمناعة وتمتّعه بالاستقرار والازدهار من شأنه تغيير موازين القوى في إفريقيا والبحر الأحمر والشرق الأوسط. وإذا ما كان في هذا الرأي سبيل تبريريّ لعدم توقّف حروب الداخل منذ استقلال البلد، فإنّه يواري الاعتراف بفشل السودان في صناعة دولة ذكيّة مرنة شاملة تستطيع إدارة بلد واسع المساحة، متعدّد اجتماعياً، محاط بدول قريبة وبعيدة، لها امتداداتها ونفوذها التاريخي في هذا البلد.

تكشف أنباء الميادين في السودان خلال الأشهر الأخيرة عن انقلاب في موازين القوى العسكرية لمصلحة الجيش السوداني بقيادة عبدالفتّاح البرهان

موقف أميركيّ غامض

تدخّلت دول عدّة مباشرة بالصراع الحالي على السلطة والنفوذ بين جنرالين يفترض أنّهما كانا شريكين في الإطاحة بنظام عمر البشير وإدارة البلد من بعده. وعلى الرغم من أنّ مواقف العواصم بقيت غامضة، لكنّ فلسفة التدخّل في ذلك الصراع انقسمت بين منطق دعم الجيش، عماد الدولة، أيّاً كانت المآخذ عليه وعلى حلفائه (خصوصاً الميليشيات الإسلامية)، ومنطق دعم بديل وعد بالقطع مع منظومة حكمت منذ الاستقلال، إمّا بإثارة مظلوميّة الأطراف من المركز، وإمّا باستعارة شعارات القوى المدنية والتقدّمية التي ظهرت في “الثورة” وأطاحت البشير وطالبت بتسليم السلطة للمدنيين.

لم يكن موقف الولايات المتحدة واضحاً خلال عهد الرئيس الأميركي جو بايدن. تشاركت مع السعودية في دعم “منبر جدّة” للمفاوضات، من دون أن تكشف واشنطن عن رؤيتها لمآلات البلد، وتمسّكت بلغة التعميم بشأن المطالبة بدولة مدنيّة والدعوة إلى حوار المتحاربين. وحين فرضت في أوّل هذا العام عقوبات على “حميدتي” قائد الدعم السريع، فإنّ واشنطن أعلنت بعد أسبوع فرض عقوبات على قائد الجيش عبدالفتّاح البرهان، واعتبرت وزارة الخارجية الأميركية حينها أنّ “هذا القرار يثبت التزامنا إنهاء هذا النزاع”. فهِم القائدان أنّ واشنطن تنتظر فوز أحدهما لتبني على الشيء مقتضاه.

ترسم نتائج المعارك خرائط نفوذ جديدة للمتقاتلين. وستتأمّل الدول المنخرطة في الصراع مواقعها داخل المشهد الجديد القابل دائماً للتحديث

تعرف الولايات المتحدة أنّ الصين حقّقت تمدّداً في القارّة السمراء بما في ذلك داخل السودان. أصدرت واشنطن التحذير تلو التحذير من اتّفاقات تعود إلى عهد البشير، يعاد إنعاشها من جديد لمنح روسيا قاعدة بحريّة توفّر لها إطلالة على البحر الأحمر. في أيار 2024، زار وفد روسي، برئاسة المبعوث الرئاسي للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، مقرّ حكومة البرهان في بورتسودان. قال حينها إنّ “روسيا تعتبر مجلس السيادة الانتقالي (الذي يرأسه البرهان) الممثّل الشرعي للشعب السوداني”. فيما ذكر وزير خارجية السودان أنّ بوغدانوف “استنكر الدعاوى القائمة على المساواة بين شرعية الدولة السودانية والتمرّد”. لاحقاً نشطت مفاوضات في موسكو لوّحت بالإفراج عن القاعدة الروسيّة مقابل تسليح روسيّ للجيش السوداني. وفي التسليح أيضاً برز دور مسيّرات “بيرقدار” التركية، فيما تدافعت قبل ذلك تقارير عن مسيّرات إيرانية من نوع “مهاجر 6” الإيرانية يملكها الجيش متواكبة مع قرار استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الخرطوم وطهران في تشرين الأوّل 2023.

حرب طويلة

ترسم نتائج المعارك خرائط نفوذ جديدة للمتقاتلين. وستتأمّل الدول المنخرطة في الصراع مواقعها داخل المشهد الجديد القابل دائماً للتحديث. قد تُحسم المعركة في الخرطوم، لكنّ ذلك لا ينهي حرباً ولا يحسم النصر. فقوات الدعم السريع تسيطر على مناطق أخرى في البلد، لا سيما في دارفور وكردفان. يطرح الأمر إشكالية الذهاب إلى حرب طويلة الأمد قد لا يحسم الانقسام الدولي نهايات لها. وعلى الرغم من أنّ التقسيم لم يحظَ بداعم دوليّ معلن، غير أنّ الأمر بات في سيناريوهات الخطّة “ب” التي هيّأت لها قوّات الدعم السريع والفصائل والتيّارات المتحالفة حكومة أُعلنت في نيروبي في شباط الماضي، وسط تساؤلات في شأن أجندة كينيا ومصلحتها في استضافة الحدث.

إقرأ أيضاً: موسكو باعت طهران: البحر الأحمر آخر أوراق خامنئي

غير أنّ التقسيم لا يمكن أن يجري بقوّة المتحاربين فقط، بل يحتاج إلى اعتراف دولي يسبقه تفاوض واتّفاق، على الأقلّ وفق النسخة التي سبق أن خبرها السودان من خلال اتّفاق أًبرم في نيفاشا عام 2005، أدّى لاحقاً إلى تنظيم استفتاء، عام 2011، قضى باستقلال جنوب السودان وانفصاله عن الشمال. لكنّ العالم في حالة تحوّل وفي مرحلة فوضى تطلّ من القرارات التي يصدرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بما يجعل التفاوض والاتّفاق من أجل أيّ حلّ في السودان أمراً عسيراً سيكون متأثّراً بذلك العبث وتلك الفوضى. غير أنّ مراقبين يتوقّفون عند عبارة “التعاون في الشرق الأوسط” التي وردت في بيانات الاتّصال الأخير بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، ويتساءلون: هل كان السودان واحداً من ملفّات ذلك التعاون العتيد؟

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

ترامب وبايدن: إدارتان تتقاسمان مآزق المنطقة

اختبرنا في وقت قصير جدّاً حكم الديمقراطيين في أميركا، ولاحقاً حكم الجمهوريين، فما هو الفارق بينهما؟ وكيف تعاطى كلٌّ منهما مع أزمات المنطقة؟   الإدارة…

نتنياهو يُطوّع القضاء: إسرائيل بقبضة التطرّف..

لا يُبدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اهتماماً بالاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في تل أبيب والقدس على إقالة رئيس الشاباك رونين بار والمستشارة القضائية، والتنصّل من…

أكراد إيران: النوروز “عيد” الهويّة..

شكّلت مناسبة عيد النوروز “اليوم الجديد” أو بداية السنة الإيرانية الجديدة (الهجرية الشمسية 1404)، اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام الإيراني على تلمّس التحدّيات والمخاطر التي…

ثُمانية بن سلمان على خطى المؤسّس: نفعل فوق ما فعلوا

ثماني سنوات. كانت ملء العين والخاطر. لا يُماثل محمّد بن سلمان غيره في كلّ أحواله. وعلى سجيّة من يطلب المجد يصبر عليه. صبر الرجل واجتهد…