موسكو باعت طهران: البحر الأحمر آخر أوراق خامنئي

رفضت الجهات الإيرانية الكشف عن مضمون الرسالة التي وجّهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. كان المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات أنور قرقاش قد حمل الرسالة إلى طهران في 12 آذار الجاري، في اليوم نفسه الذي كان فيه خامنئي يكرّر رفض بلاده التفاوض مع الولايات المتّحدة. قالت طهران إنّه لا شيء يستدعي الكشف عن مضمون الرسالة، وأعلنت تشكيل لجان لدراستها. بعد أيّام وجد وزير الخارجية عبّاس عراقتشي في الرسالة لهجة تهديد، لكنّه عثر داخلها على مداخل يمكن البناء عليها. 

 

أجرى وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في 17 آذار محادثة هاتفية مع رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني مواكبةً لهذا الحدث. وكشفت مصادر أميركية عن توجيه الوزير الأميركي رسالة تحذير شديدة اللهجة أبلغ فيها السوداني بأنّ أيّ تدخّل للفصائل المسلّحة العراقية في شأن الاستهداف الأميركي للحوثيين في اليمن، سيدفع واشنطن لردّ عسكري سريع ضدّ تلك الفصائل داخل العراق. وقيل أيضاً إنّه كان عاتباً على عجز بغداد عن ضبط السلاح خارج سيطرة الدولة. جرى ذلك على إيقاع “عملية عسكرية” تشنّها واشنطن ضدّ جماعة الحوثي في اليمن.

تقاطعت تلك التفاصيل لتنتج تفاصيل أخرى تفضح تحوّلاً جذرياً في المواقف، وربّما على نحو فجّ ومباشر. اكتشف وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، في 23 آذار، أنّ العراق ليس جزءاً من “محور المقاومة”، وأنّ بغداد ترفض نظريّة “وحدة الساحات”. بدا أنّ العراق يعلن مغادرة “المحور” رسميّاً، بعدما غادره لبنان وسوريا أيضاً رسمياً. جرى ذلك التحوّل بعد أيّام على إرسال بغداد في 20 آذار رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي إلى صنعاء، في مهمّة ظاهرها حضور مؤتمر من أجل فلسطين، وفق رواية حوثيّة، وباطنها حمل رسائل من واشنطن تُضاف إلى رسائلها الناريّة.

رفضت الجهات الإيرانية الكشف عن مضمون الرسالة التي وجّهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي

رسائل عجيبة من قاآني..

ذهب عبدالمهدي في مهمّة تعلم بها واشنطن وعلى دراية بمواعيد الوصول ومكان الإقامة التي تجري تحت إيقاع الضربات الأميركية. ولا شكّ طبعاً أنّ الرجل، وهو حليف لطهران، تحرّك صوب صنعاء بمباركة إيرانية. وعلى الرغم من عدم الكشف عن طبيعة المهمّة، لكنّ فيها ما قد يُقنع إدارة ترامب بأنّ طهران وبغداد تبذلان جهوداً لإقناع الجماعة في اليمن بخفض التصعيد. ولمزيد من الإشارات اللافتة، كانت طهران قد أرسلت قبل ذلك، في 18 آذار (أي في اليوم التالي لاتّصال وزير واشنطن برئيس حكومة بغداد)، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال إسماعيل قاآني إلى العاصمة العراقية في زيارة خاطفة غير معلنة. عقد اجتماعاً مهمّاً مع قيادات في “الإطار التنسيقي”، بحضور قادة الفصائل والحشد الشعبي، إلى جانب حضور السفير الإيراني في بغداد.

حمل قاآني رسائل “عجيبة”: أكّد ضرورة التزام العراق بسياسة الحياد، وعدم التدخّل في الملفّ السوري، إلى جانب ضبط الملفّ الأمنيّ ومنع أيّ اجتهادات خارج إطار الدولة. كانت مهمّة الرجل ضبط الفصائل التابعة لإيران، وربّما مساعدة بغداد في الاستجابة لطلبات وزير الدفاع الأميركي. وحين غادر قاآني بغداد، ذهبت الحكومة العراقية بعد أيّام، على لسان وزير الخارجية، إلى تقديم استقالتها من محور إيران، والجهر بالكفر بالساحات ووحدتها.

بدا أنّ الأمور تتحرّك بسرعة، وأنّ ترتيباً للصفوف يجري لتحديث مواقف بغداد وطهران على وقع “إنذار” مدّته شهران أطلقه ترامب في وجه إيران في رسالته. كلّ ذلك يجري على وقع غطاء أميركي لمذبحة تجري في قطاع غزّة، وتهديدات باستئناف الحرب ضدّ لبنان، وتوسّع هامش المناورة الإسرائيلية العسكرية والسياسية في سوريا. بدا أنّ انضباط الأذرع في العراق تمدّد باتّجاه “الحزب” في لبنان، الذي نفى علاقته بإطلاق صواريخ من لبنان على إسرائيل، في 22 آذار، وكاد يقسم إنّه ما يزال وراء الدولة في لبنان وخلف قرارها.

تتدحرج التطوّرات وتراقب طهران ذلك التقارب المتدرّج بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين

باعها بومضة عين

تتدحرج التطوّرات وتراقب طهران ذلك التقارب المتدرّج بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في اتصالهما الهاتفي، في 18 آذار، تمكّن الرئيس الأميركي من انتزاع موافقة نظيره الروسي على “عدم تمكين إيران من امتلاك قدرات تدمير إسرائيل”. بدا أنّ حليف طهران في موسكو قد “باع” إيران بومضة عين، على حدّ تعبير أحد المراقبين الإيرانيين المتهكّمين. لا شيء يفاجئ طهران في هذا الصدد، فقد سبق أن تبرّمت منابرها من ذلك التواطؤ الذي مكّن إسرائيل من الاستفادة من غضّ طرف روسي للفتك بمقدّرات إيران في سوريا خلال الأعوام الأخيرة، حتّى إنّ أصواتاً من داخل البرلمان الإيراني لم تجد في الأمر غضّ طرف فقط، بل ضلوع لا يخفى على عين.

إقرأ أيضاً: رسالة ترامب لإيران: لا صواريخ ولا أذرع.. وإلا فسقوط النّظام

لا يمكن إلّا استنتاج أنّ المشهد الإيراني في المنطقة يتغيّر. لم تعد تستطيع إيران التعويل إلّا على “عناد” الحوثيين في اليمن واستمرار تمكّنهم من إطلاق صواريخهم على إسرائيل أو الملاحة الدولية في البحر الأحمر. تؤكّد طهران أن لا علاقة لها بقرار مستقلّ تأخذه الجماعة اليمنيّة. توحي لواشنطن أنّها تستطيع المساعدة في نزع فتيل التصعيد، وترسل من أجل ذلك حليفاً عراقيّاً مثل عادل عبدالمهدي للتوسّط. لكنّ ترامب مع ذلك يحمّلها مسؤولية كلّ هذا العبث في مياه اليمن.

طهران تراهن على الوقت، فصواريخ الحوثيين قد تستمرّ طويلاً في استهداف إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر، ما دامت واشنطن لا تملك خططاً برّيّة أميركية ترفد حملتها الجوّية. وفيما يَعِد ترامب بإحراق ورقة إيران في البحر الأحمر، يعوّل خامنئي بيأس على لحظة تأتي فيها واشنطن طالبةً مونة طهران على جماعتها في اليمن.

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

تفادياً لذهاب لبنان ضحيّة أحداث المنطقة!

تكفي زيارة قصيرة للبنان هذه الأيّام، للتأكّد من صعوبة إحداث تغيير جذري في الوضع في المدى القصير. بل تكفي الزيارة للتساؤل: هل يوجد في السلطة…

الإصلاح والسّلاح ومصير لبنان

الاستقبال الاستثنائي الذي أُحيط به الرئيس جوزف عون في السعودية، والذي سيحاط به في فرنسا قريباً، ولاحقاً في العواصم الأخرى المؤثّرة على لُبنان، ليس أمراً…

“أكرم إسطنبول” “الخروج من الجنّة”!

إذا لم يذهب الطرفان المتصارعان في تركيا نحو التهدئة وتجنّب المزيد من التصعيد والتوتير، فارتدادات ما يجري لن تبقى محصورة في النقاشات السياسية والقضائية والإعلامية،…

نصر الخرطوم وسيناريوهات التّقسيم في السّودان

تكشف أنباء الميادين في السودان خلال الأشهر الأخيرة عن انقلاب في موازين القوى العسكرية لمصلحة الجيش السوداني بقيادة عبدالفتّاح البرهان. لكنّ الأيام والساعات الأخيرة أفرجت…