لبنان وسوريا… والدّولة المسيحيّة ثالثتهما

تُقلق أخبار العنف والقتل والمجازر الآتية من سوريا، لبنان، دولةً ومجتمعاً وطوائف. لكنّ أخبار الاتّفاقات والتوافقات الأهلية هناك، أو ما يرشح من أخبار عن توافقات الطوائف والإثنيات، تُقلق الوطن الصغير أكثر. ويتضاعف القلق في ظلّ ما يصدر من كلام في الغرب عن فاعلين ومؤثّرين في صناعة سياسات الدول الكبرى، خاصةً الولايات المتّحدة الأميركية.

 

 

يُقلق الاتّفاق بين قوّات سوريا الديمقراطية “قسد” وبين إدارة الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، وما رشح عن اتّفاق قريب بين الأخير وبين دروز سوريا في السويداء وغيرها، أكثر ممّا تُقلق أحداث الساحل السوري وما يصلنا منها، سواء كانت هجمات لفلول النظام، أو محاولةً للإمساك بالمنطقة تلك من قبل القوات العسكرية السورية الجديدة.

صحيح أنّ المرء مع كلّ توافق واتّفاق بين أيّ من مكوّنات هذه البلاد، لكنّ لكلّ اتّفاق بينيّ انعكاساته على الدولتين والمجتمعين، وعلى المستقبل.

التقسيم هناك ينعكس علينا والعكس صحيح، وكذلك الوحدة الوطنية، وقوّة الدولة وهيبتها، والمؤسّسات وانتظام عملها… إلخ. فكيف إذا كانت الآراء والمقترحات الغربية تصبّ في بحر التقسيم والفرز نفسه؟!

وقّع قائد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، اتّفاقاً من ثمانية بنود، مع الرئيس أحمد الشرع، ومن المفترض أن يتمّ تطبيقه قبل نهاية العام

هنا وهناك

الوطن الصغير، الأكبر من أن يُبلَع، والأصغر من أن يُقسَّم، لا يختلف بتركيبته الإثنية والطائفية عن التركيبة السورية، مع بعض الاختلافات التي لا تغيّر في الواقع شيئاً يُذكَر، وإن كانت تضفي على كلّ بلد خصوصيّةً معيّنة.

هنا في لبنان موارنة ودروز وشيعة وسنّة وعلويون وكرد وأرمن، وهناك سنّة ومسيحيون وعلويون وإسماعيليون وكرد… إلخ. صحيح أنّ الفسيفساء السورية أغنى وأكثر تنوّعاً، لكنّها لا تختلف كثيراً عمّا في لبنان.

لا يختلف الصراع الطائفي هناك عن الصراع الطائفي هنا، والصراعان بلا حدود. إذ تساهم الجغرافيا والتاريخ المشترك والتداخل العائلي في نسج وحدة حال بينهما. ومن الصعب، في هذا الشرق البائس، أن يحتفظ كلّ “قطر” من أقطاره بمشكلاته وهواجسه وصراعاته بمنأى عن الأقطار الأخرى.

هنا سلاح متفلّت، وهناك أيضاً. وهنا وهناك المحاصصة أساس الحكم. للطوائف هناك علاقاتها الإقليمية والدولية، وللطوائف هنا الأمر نفسه. اللادولة، بالإضافة إلى التعدّد والتنوّع الطائفيَّين، قاسم مشترك بين البلدين، أو بين الشعوب الكثيرة التي تعيش منذ القدم في البلدين. وكذلك الخطر الإسرائيلي.

أمّا الحدود المشتركة فلا تضبط شيئاً، وحركة التهريب لا تقتصر على البضائع والممنوعات، وإنّما الحدود لتبادل الأحوال أحياناً، ولتوحيدها على علّاتها ومساوئها في أحايين كثيرة.

عام 2003، تردّدت أصداء سقوط نظام صدّام حسين في العراق، في نواحي المنطقة كلّها، خاصّةً في لبنان، الذي لم يستطع أن ينأى بنفسه كثيراً عن الصراع السنّي الشيعي هناك، إذ انتقل الأخير إليه، بغمضة عين، ووصلت طلائع القوى التكفيرية والطائفية من الجانبين.

تتردّد اليوم في أرجاء الجمهورية اللبنانية أصداء الأحداث في سوريا، من الساحل إلى السويداء، ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الحدود إلى الحدود.

الإشارة الأولى… الاتّفاق مع “قسد”

أخيراً وقّع قائد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، اتّفاقاً من ثمانية بنود، مع الرئيس أحمد الشرع، ومن المفترض أن يتمّ تطبيقه قبل نهاية العام.

بنود الاتّفاق عامّةٌ، وهو فرصة للحفاظ على وحدة سوريا ومنع التقسيم هناك وبناء دولة حديثة. لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل التي لم يدنُ منها الاتّفاق، لا من قريب ولا من بعيد.

صحيح أنّه يدعو إلى “دمج كلّ المؤسّسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز”، لكنّه لا يشير إلى تسليم سلاح أو حلّ قوّات “قسد” العسكرية. يتحدّث عن “مجتمع كردي” أصيل في الدولة السورية، تضمن الأخيرة حقّه في المواطنة وحقوقه الدستورية كافّة، لكنّه لا يخوض في خصوصيّة هذا المجتمع، خاصّةً لجهة الاعتراف باللغة الكردية، لغةً رسميةً في البلاد، وهو حقّ مشروع للأكراد لطالما تجاهله نظام “البعث”.

إلى ذلك، لا يدخل الأكراد في الدولة السورية، مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، وإن نصّ الاتّفاق على ذلك، وإنّما يدخلون بما هم مؤسّسات مدنية وعسكرية قائمة بذاتها. لم يُشِر الاتّفاق إلى النموذج الكردي في إربيل في العراق، لكنّه عمّم في كلّ ما يتعلّق بهذا الأمر، أو لم يخُض في التفاصيل.

تشير المعلومات إلى أنّ الشرطة في السويداء ستكون مكوّنةً من أهالي السويداء لا غير، أي من الدروز فحسب

الإشارة الثّانية… الدّروز

أمّا لناحية الاتّفاق مع الدروز، فتشير الوقائع والأحداث والمواقف الصادرة عن الطرفين، بالإضافة إلى المعطيات على أرض الواقع، إلى أنّه لن يبتعد كثيراً عن منح الدروز نوعاً من الاستقلالية أو الحكم الذاتي، كما يطالبون.

مثلاً، تشير المعلومات إلى أنّ الشرطة في السويداء ستكون مكوّنةً من أهالي السويداء لا غير، أي من الدروز فحسب، الذين سيخدمون تحت اسم الدولة في محافظتهم أو منطقتهم. وإن كانت الإمرة لغيرهم، فهي لا تقدّم ولا تؤخّر. الكلام كلّه يدور حول إلحاق الأجهزة الأمنيّة هناك (القائمة بذاتها في السويداء)، بوزارة الداخلية. إلى ذلك، تمّ تعيين العميد حسام بلان، وهو درزيّ، مديراً لناحية جرمانا.

الإشارة الأخطر

في مقال له في موقع “مركز السياسة اليهودية”، رأى ديفيد وورمستر، الخبير في السياسة الخارجية الأميركية والمساعد الخاصّ لمستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق جون بولتون خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، أنّ عدم استقرار لبنان سببه أسس الدولة اللبنانية، وفي مقدَّمها الميثاق الوطني، وأنّ استقرار لبنان لن يكون إلّا بسبب وجوده الأصليّ كأمّة مسيحية إقليمية تجمع مختلف الطوائف المسيحية المجاورة، في وطن يضمن الأمل في البقاء الإقليمي.

يقول وورمستر إنّ لبنان يجسّد ثمرة حدث كبير: “معركة عين دارة في عام 1711، حين تحوّلت عشيرة شهاب القويّة من الإسلام السنّي إلى المسيحية، وتحالفت مع عشيرة الخازن المارونية القويّة، ووحّدت المسيحيين غير الأرثوذكس الباقين في قوّة قويّة تحالفت جميعها مع نصف الدروز تحت عشائر جنبلاط وتلحوق وعماد وعبد الملك”.

انتصر هذا التحالف الماروني الدرزي على عدوّهم الرئيسي، الإمبراطورية العثمانية وحكّامها في صيدا ودمشق، وطرد وكلاء العثمانيين، عشائر أرسلان وعلم الدين والصواف الدرزية من جبل لبنان إلى الشرق في ما يُعرف اليوم بمنطقة جبل الدروز/ السويداء في سوريا.

المشكلة أنّنا كلّما نظرنا إلى الغرب، أشار لنا إلى سوريا. هذا ما حصل زمن حافظ الأسد قبل نصف قرن، وهذا ما يتكرّر بعد نصف قرن

كان العدوّ الرئيسي، الذي تشكّلت حوله الدولة اللبنانية في عام 1711، هو التهديد العثماني من دمشق ومنطقة صيدا. كان طرد الأتراك مشروعاً مسيحياً ودرزياً، ولم يكن الشيعة حتّى عاملاً مؤثّراً، على الرغم من أنّهم أيضاً كانوا يعدّون الإمبراطورية العثمانية عدوّاً لهم كان العرب السنّة أداة في يدها وحسب.

ما يعنيه هذا الكلام لا يقلّ خطورة عمّا يجري على أرض الواقع في سوريا، وبدرجة أقلّ في لبنان. فوورمستر يدعو إمّا إلى معركة عين دارة جديدة، أو إلى البناء على نتائجها القديمة، وفي الحالين نحن أمام دولة مسيحية، شكلاً ومضموناً، على تخوم دولة سنّية مركزية في دمشق، وكانتونات لا عدد لها ولا حصر تنتشر كالطفيليات حول الدولة اليهودية شبه الناجزة على أرض فلسطين.

من الشّرق والغرب معاً

بالإمكان القول هنا إنّنا انتظرناها من الغرب فأتت من الشرق والغرب معاً، من سوريا ومن أميركا. وطبعاً نتحدّث عن الفدرالية المقنّعة حتى اللحظة. فما يجري في سوريا، من الصعب أن ينأى لبنان عنه، ولأسباب كثيرة: منها ما هو مشترك، كالتعدّدية الطائفية والتنوّع الإثني، والتوق إلى خصوصيّات أهلية لطالما دغدغت مشاعر الطوائف هنا وهناك، وأحلامها. ومنها ما هو لبناني بحت، كالانقسام عند كلّ حدث وعلى كلّ قضيّة.

إقرأ أيضاً: عقيدة زايد

ليس خافياً على أحد أنّ اللبنانيين منقسمون في بلدهم هذا على كلّ شيء، ولا يتّفقون إلّا على الاختلاف على كلّ شيء. أبعد من ذلك، الأرضيّة جاهزة لتلقّف الحلول السورية، أو لاستيراد الحلّ السوري. فهنا أيضاً للطوائف جغرافيّتها وتواريخها وعلاقاتها وامتداداتها وتحالفاتها… والسلاح. فكيف إذا كانت الرياح الغربية تدغدغ هوى شرقيّاً، وتحديداً سوريّاً، يتبلور كلّ يوم؟

المشكلة أنّنا كلّما نظرنا إلى الغرب، أشار لنا إلى سوريا. هذا ما حصل زمن حافظ الأسد قبل نصف قرن، وهذا ما يتكرّر بعد نصف قرن.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

حماس ومراجعة الحسابات

منذ السابع من أكتوبر 2023 والرد الإسرائيلي على “زلزاله” وحركة حماس تقاتل وتفاوض وحدها، فلا هي أوجدت صيغة فلسطينية موحدة لمعالجة الحالة، ولا قدّمت للغزيين…

موسكو باعت طهران: البحر الأحمر آخر أوراق خامنئي

رفضت الجهات الإيرانية الكشف عن مضمون الرسالة التي وجّهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. كان المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات…

ترامب يبتزّ الكويت: الابتعاد عن الصّين والدّفع نحو التّطبيع

بلا مقدّمات تمهيدية أو سياقات واضحة، واجهت الكويت انتقادات من وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك، الذي ألمح إلى أنّها لم تُسدّد بعد فاتورة تحريرها من…

لا إصلاح دون نزع السّلاح

شاهدت مقابلة رئيس الوزراء نوّاف سلام على قناة “العربيّة” التي أجرتها معه الزميلة رشا نبيل. لم أُفاجأ بأن يكون سؤالها الأوّل عن نزع سلاح “الحزب”،…