لم تعد المسألة قضيّة استعادة الرهائن في غزّة، فكلّ الوقائع تشي بأنّ الإبادة هدف بحدّ ذاته، ولن تتوقّف عجلتها الحديد قبل تهجير القطاع من أهله وجعله أرضاً خلاء تصلح سواحله ورماله البيض لأن تكون منتجعات شاطئيّة مترفة وغالية الثمن. هاجس بنيامين نتنياهو بتهجير الفلسطينيين وطردهم، بات يتواءم مع رغبة دونالد ترامب بالاستثمار السياحي والماليّ على برك الدم وتغيير شكل المنطقة وخرائطها.
لا شيء يحول دون فتح نتنياهو نار جهنّم على غزّة من جديد لدفع أهلها قسراً إلى الرحيل:
1- الحديث عن تراكم المشكلات أمامه ليس إلّا “حكي جرايد” ولا يشكّل عقبة حقيقية أمام طموحه “الملكيّ”. نتنياهو اليوم هو الحاكم المطلق في إسرائيل. لا معارضة جدّية تعترضه، وإن وُجدت فهي ضعيفة وغير متماسكة يعوزها البرنامج السياسي البديل والفوارق في المسائل الجوهرية كالحرب والاحتلال والديمقراطية. في المقابل ائتلافه الحكومي متماسك ومتمسّك بالسلطة ومتين، وتعزّز بعودة القوميّ المتعصّب إيتامار بن غفير إلى صفوفه.
ستتعزّز قبضته على السلطة بإكمال سيطرته على الأجهزة الأمنيّة والمؤسّسة العسكرية والمفاصل القانونية للكيان بعد إقالة رئيس “الشاباك” رونين بار والمستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف ميارا، ونجاحه السابق في إيصال الموالين لشخصه لتولّي وزارة الدفاع ورئاسة الأركان وشعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”.
2- استعادت إسرائيل غالبيّة الرهائن لدى “حماس” أحياء وأمواتاً ولم يبقَ إلّا (192 رهينة من أصل 251)، ولذا ضاق هامش التوتّر وضمرت أعداد المتظاهرين وتلاشت الآمال تدريجياً بوجود أحياء وضعفت الأوراق في يد المفاوض الفلسطيني وازدادت الضغوط عليه لإطلاقهم. وكان أبرزها تهديد ترامب بمواجهة الجحيم إذا لم يتمّ إطلاقهم فوراً، الأمر الذي كرّره مبعوثه المتجهّم ستيف ويتكوف باستعلاء وبالحزم نفسه.
تهرّب نتنياهو من جلسات الاستماع في قضايا الفساد المتّهم بها، تحت ذريعة انشغاله بقضايا كبرى تهمّ مصلحة الدولة!
لا حروب إسناد
3- لا حروب إسناد بعد اليوم، فـ”الجبهات السبع” تلاشت أو تكاد. محور المقاومة يلملم أضلاعه المفكّكة. عموده الأساس “الحزب” مثخن بالجروح البليغة والأطواق من كلّ صوب. خطوط الإمداد العسكري واللوجستي قُطعت مع الانهيار الصاعق لنظام بشّار الأسد في سوريا. “أنصار الله” الحوثيون في اليمن باتوا على رأس جدول الأعمال الحربية الأميركي.
إيران، التي راكمت الخطأ تلو الخطأ وظنّت أنّ الحروب الكبرى يمكن أن تُخاض من وراء ظهر أهل القضيّة بزيادة أعداد الصواريخ والاكتفاء بالتكتيكات السطحيّة لا بالخطط المدروسة ولا بالاستراتيجيات الحديثة والبعيدة المدى، تقع مجدّداً في الخطأ عينه. تظنّ أنّها لا تزال تمثّل حاجة وضرورة للمصالح الأميركية العليا، وأنّ واشنطن ستعود لملاقاتها في منتصف الطريق، لكنّها لا تدرك مدى الحفر الأميركي تحتها، وفي أيّ زاوية حُشرت بعد تطويقها الكامل من كلّ الجهات وإعادتها إلى خلف حدودها.
4- المواقف العجيبة لترامب، وعبثيّته المطلقة بقواعد التعامل الدولي والاتّفاقات والمواثيق والأعراف، وجنوحه المطلق صوب إسرائيل، بحيث لم يرَ في فلسطين إلّا الرمال الذهبية لشواطىء غزة وضيق مساحة إسرائيل وضرورة توسيعها، وقداسة اتّفاقات التطبيع معها من دون أيّ مقابل سياسي ولو بالكلام. فالرجل الذي جاهر بالسلام والمطالبة بوقف الحرب لا ينفكّ يهدّد بالجحيم ورمي الفلسطينيين بناره إذا لم يستسلموا ويسلّموا السلاح ويعلنوا التوبة عن المقاومة والتخلّي الطوعيّ عن ديارهم.
مع ترامب ومبعوثيه تصير الوساطة الأميركية في المفاوضات ضرباً من الخداع، وجزءاً من استراتيجية الحرب الإسرائيلية، وشبكة أمان لنتنياهو لترميم بنيانه السياسي ومواصلة جرائم الإبادة.
اتّهم ويتكوف “حماس” بعدم الموافقة على شروطه للانتقال إلى المرحلة الثانية من اتّفاق الهدنة. وكان ذلك أفضل حجّة لنتنياهو للعودة إلى الحرب وممارسة هوايته المفضّلة بقتل أهل غزّة بغطاء أميركي.
لم تعد المسألة قضيّة استعادة الرهائن في غزّة، فكلّ الوقائع تشي بأنّ الإبادة هدف بحدّ ذاته، ولن تتوقّف عجلتها
في ليلة واحدة هدرت دماء أكثر من 500 قتيل فلسطيني، وكان ذلك كفيلاً:
– بإرضاء بن غفيرالمتعطّش للدم وإعادته إلى الحكومة، وتالياً تمرير الموازنة المثيرة للجدل وتثبيت الائتلاف.
– التهرّب من الالتزامات الإسرائيلية باتّفاق وقف النار، وإعادة احتلال معبر نتساريم وعدم الانسحاب من محور فيلادلفيا، وتالياً خنق “حماس” أو أيّ بديل سياسي أو عسكري عنها في القطاع بعزلهما عن العالم الخارجي.
– تهرّب نتنياهو من جلسات الاستماع في قضايا الفساد المتّهم بها، تحت ذريعة انشغاله بقضايا كبرى تهمّ مصلحة الدولة!
– صرف الانتباه عن الاحتجاجات ضدّ حكومته بسبب إقالة رئيس “الشاباك” وعزل المستشارة القضائية.
– ممارسة المزيد من الضغط على “حماس” في حال الاضطرار إلى العودة إلى المفاوضات تحت تأثير احتجاجات عائلات الرهائن ودفعها إلى تقديم تنازلات.
القطاع أرض مدافن
خلف هذه الأهداف الصغيرة والتغطية الأميركية للجرائم الإسرائيلية، ترتسم صورة أشدّ خطورة وتعقيداً. المقتلة تتّسع يوماً بعد يوم، والقطاع يصير أرض مدافن لا تصلح للحياة، فغالبيّة السكّان تعاني ما تعاني من مرض وجوع وألم. هؤلاء بشر تحقّ لهم الحياة والزواج والعمل والإنجاب والتعلّم، وبحجّة الإنسانية المزيّفة قد تُفتح لهم أبواب الخروج من دون عودة.
إقرأ أيضاً: مفاوضات الرّهائن: نقلة ما قبل “كش ملك”؟
ما يحدث في القطاع يحدث مثله على نار هادئة في الضفّة الغربية ومدنها والمخيّمات. طريق العبور نحو سيناء المصرية قد تكون مغلقة نظراً إلى وجود جيش وحدود وموقف رسمي رافض وحسابات معقّدة. لكنّ الاتّجاه صوب لبنان وسوريا صار شبه مفتوح بعد تلاشي الحدود وإزالة الموانع. فهل نعدّ العدّة لتلقّف ضحايا النكبة الثانية والكبرى؟