مع تصاعد التوتّرات في أنحاء العالم، ثمّة سؤال بسيط لكن بعيد المنال: هل يملك الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطّة؟ من المبادرات الدبلوماسية المفاجئة إلى التهديدات العسكرية المباغتة، تركت خيارات ترامب غير المتوقّعة في السياسة الخارجية الحلفاء في حالة ترقّب، والخصوم في حالة تأهّب، والمحلّلين في حيرة من أمرهم وهم يحاولون فهم ما يجري.
خلال الأشهر المنصرمة، طرح ترامب فكرة شراء غرينلاند، وأشعل أزمة في باناما من خلال تغييرات مفاجئة في السياسة، وشنّ ضربات عسكرية في اليمن، وهدّد علناً بقصف إيران. كلّ ذلك بينما قلّل من شأن تصاعد التهديدات الإرهابية في الشرق الأوسط وخارجه. العالم يراقب، بينما يبدو أنّ القائد الأعلى للقوات المسلّحة الأميركية ينتقل من نقطة توتّر إلى أخرى من دون سابق إنذار أو تفسير واضح.
السؤال المطروح هو: هل تُخفي هذه الفوضى الظاهرة استراتيجية متماسكة، أم هي فعلاً عشوائية كما تبدو؟ يدافع مؤيّدو ترامب عن أسلوبه، قائلين إنّ منهجه، وإن كان غير تقليدي، هو جزء من خطّة مدروسة تستخدم عنصر “عدم القدرة على التنبّؤ” كأداة تفاوضية. فمن خلال إبقاء الخصوم، وحتى الحلفاء، في حالة عدم يقين، ويدّعي مؤيدوه أنّه ينتزع تنازلات ويعيد تشكيل التوازنات العالمية لمصلحة الولايات المتّحدة.
الرجل المجنون
تعتمد هذه النظريّة، المعروفة باسم “نظريّة الرجل المجنون” التي تعود إلى سياسة الرئيس ريتشارد نيكسون خلال حرب فيتنام، على فكرة أنّ الظهور بمظهر القائد غير المتوقّع يمكن أن يكون مكسباً. فإذا اعتقد الخصوم أنّ رئيس الولايات المتحدة قادر على أيّ شيء، فقد يفكّرون مليّاً قبل اختبار عزيمته.
لكنّ المحلّلين والمراقبين يرون أنّ أفعال ترامب تتجاوز حدود المخاطرة المحسوبة لتقع في دائرة الارتجال المتهوّر. ويؤكّدون أنّ قراراته مدفوعة بغرائز شخصية، ودورات الأخبار الإعلامية، ورغبته في تحقيق انتصارات سريعة تعزّز صورته داخليّاً، محذّرين من أنّ هذه التحرّكات القصيرة الأمد قد تتطوّر إلى مستنقعات طويلة الأجل.
إنّ أجندة “أميركا أوّلاً” ليست تعبيراً عن الفخر الوطني وحسب، بل هي إعادة تفكير جذرية في كيفية استخدام القوّة الأميركية على المسرح العالمي
يتجلّى هذا بوضوح في الشرق الأوسط. فالضربات العسكرية الأخيرة في اليمن، التي وصفتها الإدارة بأنّها ردّ على الإرهاب وعدوان الحوثيين المدعومين من إيران، تأتي في وقت تسعى فيه واشنطن لتقليص وجودها في المنطقة. ومع غياب خطّة واضحة للنهاية، تثير هذه الضربات مخاوف من تورّط أميركي أعمق في صراع معقّد ودمويّ.
في الوقت نفسه، تثير الخطابات العدائية المتزايدة لترامب تجاه إيران قلقاً متزايداً بشأن احتمال اندلاع حرب شاملة. فتهديده الصريح بقصف إيران يتناقض بشكل حادّ مع تصريحاته السابقة عن رغبته في إنهاء “الحروب التي لا نهاية لها”. وبينما تبدو الدبلوماسية مع طهران في طريق مسدود، والعقوبات الاقتصادية تزداد وطأة، يظلّ خطر سوء التقدير قائماً.
النّاخبون سيكافئون رئيساً سيحسم
في الداخل الأميركي، يقدّم ترامب هذه التحرّكات باعتبارها دليلاً على القوّة، فالولايات المتّحدة تفرض نفسها بلا اعتذار، متحرّرة من قواعد الدبلوماسية القديمة. وهو يراهن على أنّ الناخبين سيكافئون رئيساً يتصرّف بحسم ويبقي أعداء أميركا في حالة ترقّب دائم.
لكن على الساحة الدولية، يقول المنتقدون إنّ هذا النهج قد عزل الولايات المتحدة وأضعف تحالفاتها التقليدية. فشركاء “الناتو” وحلفاء واشنطن التقليديون في أوروبا يبدون قلقاً متزايداً، بينما تدفع حالة عدم اليقين الاستراتيجي في آسيا بعض الدول إلى التقارب مع خصوم أميركا مثل الصين وروسيا.
إذا كانت وراء كلّ ذلك استراتيجية كبرى، فهي لا تزال غامضة. يرى البعض أنّ ما يحدث هو دبلوماسية قائمة على الصفقات بأقصى درجات البراغماتية، حيث تُعامل كلّ أزمة كفرصة للحصول على نفوذ أو إبرام صفقات أو تحقيق عناوين إعلامية. بينما يعتبر آخرون ما يحدث سلسلة من التحرّكات الاندفاعية التي تحكمها الغرائز أكثر من الرؤية العميقة.
بالنسبة لترامب، لم تكن “أميركا أوّلاً” شعاراً فحسب، بل خارطة طريق للعمل على الساحة العالمية
أجندة “أميركا أوّلاً”
ما هو واضح أنّ هذا النهج يبتعد كثيراً عن فنّ إدارة الدولة التقليدي. وبينما يبقى السؤال معلّقاً عمّا إذا كان هذا المسار سيقود إلى اختراقات غير متوقّعة أو كوارث غير محسوبة، فإنّ سياسة ترامب الخارجية تختبر حدود “عدم القدرة على التنبّؤ” بما هي وسيلة من وسائل ممارسة القوّة.
تكمن في قلب هذا التحوّل أجندة “أميركا أوّلاً”، وهي عقيدة تؤكّد أنّ المصالح الأميركية فوق كلّ شيء، وتتحدّى الأعراف التقليدية للدبلوماسية العالمية.
بالنسبة لترامب، لم تكن “أميركا أوّلاً” شعاراً فحسب، بل خارطة طريق للعمل على الساحة العالمية. المبدأ الأساسي بسيط: يجب أن يخدم كلّ قرار يُتّخذ في السياسة الخارجية المصالح المباشرة والملموسة للولايات المتحدة، سواء كان ذلك من خلال حماية الوظائف الأميركية، أو توفير الموارد الحيويّة، أو تعزيز الأمن القومي.
أدّى هذا النهج إلى سلسلة من التحرّكات الجريئة والمفاجئة في بعض الأحيان. من التهديد بالعمل العسكري ضدّ الخصوم إلى إعادة النظر في التحالفات القديمة، يشير نهج ترامب إلى تحوُّل جوهري. لم يعد يُنظر إلى المشاركة العالمية على أنّها غاية في حدّ ذاتها، بل أصبحت تُقوَّم فقط بناءً على فوائدها أو تكاليفها المحتملة على المواطنين الأميركيين.
أحد الجوانب الرئيسية لهذه السياسة الخارجية الجديدة هو الاستعداد لمعاقبة أولئك الذين يتحدّون المصالح الأميركية. وقد تمثّلت هذه الإجراءات أخيراً في الضربات العسكرية في اليمن والتهديدات الصريحة ضدّ إيران، وهي قرارات لا تبدو عشوائية بل تُصوَّر بأنّها خطوات محسوبة تهدف إلى ردع المخالفين.
عواقب بحقّ كلّ من تحدّى أميركا
تعكس استراتيجية ترامب نوعاً من الدبلوماسية القائمة على المعاملات. من خلال الردّ بقوّة على الأعمال التي تعتبرها تهديداً للمصالح الأميركية، ترسل الإدارة رسالة واضحة: الدول التي تتحدّى الإرادة الأميركية ستواجه عواقب وخيمة. الهدف من هذا النهج العقابي هو إجبار الحكومات الأجنبية على التفاوض من موقع ضعف، وبالتالي تحقيق تنازلات تعزّز الأولويّات الاقتصادية والأمنيّة للولايات المتحدة.
تعكس استراتيجية ترامب نوعاً من الدبلوماسية القائمة على المعاملات. من خلال الردّ بقوّة على الأعمال التي تعتبرها تهديداً للمصالح الأميركية
يعني نهج “أميركا أوّلاً” أيضاً إعادة تقويم الالتزامات الدولية والتحالفات التقليدية. وبدلاً من افتراض أنّ المؤسّسات المتعدّدة الأطراف أو الشراكات التي تعود لعقود تخدم المصالح الأميركية تلقائياً، تتبنّى الإدارة الحالية موقفاً مفاده أنّ كلّ تحالف يجب أن يتمّ تحليله من منظور الفائدة المباشرة للولايات المتحدة.
يجادل المنتقدون بأنّ هذا النهج جعل أميركا أكثر عزلة، بينما يرى المؤيّدون أنّه يعكس إعادة تقويم واقعية تجعل الولايات المتحدة لا تتحمّل عبء القيادة العالمية على حساب ازدهارها الداخلي. خذْ على سبيل المثال المناقشات المثيرة للجدل حول أراضٍ مثل غرينلاند أو التحوّلات المفاجئة في السياسات تجاه مناطق مثل باناما. ليست هذه التحرّكات انحرافات وحسب، بل تمثّل إعادة ترتيب استراتيجيّة للأولويّات الوطنية.
توفير الازدهار الاقتصاديّ
في جوهرها، تهدف أجندة “أميركا أوّلاً” إلى توفير الازدهار الاقتصادي والسيادة الوطنية. هذا المنظور واضح في استعداد الإدارة لفرض العقوبات، أو الانسحاب من الاتّفاقات المتعدّدة الأطراف، أو حتى النظر في العمل العسكري إذا فشلت الجهود الدبلوماسية. الهدف العامّ هو ضمان أنّ أيّ مشاركة دولية، سواء من خلال التجارة أو الدبلوماسية أو القوّة العسكرية، تؤدّي إلى مكاسب صافية للولايات المتّحدة.
خلال الأشهر المنصرمة، طرح ترامب فكرة شراء غرينلاند، وأشعل أزمة في باناما من خلال تغييرات مفاجئة في السياسة
لكنّ هذا النهج له منتقدوه. يحذّر المعارضون من أنّ السياسة الخارجية العقابية المفرطة قد تؤدّي إلى تصعيد غير مقصود، وهو ما يعزل الولايات المتحدة عن حلفائها التقليديين ويزيد من زعزعة الاستقرار في المناطق المتوتّرة بالفعل. إنّ إعادة التوازن نحو نهج قائم بالكامل على المصالح المتبادلة قد يخلق بيئة عالمية أكثر اضطراباً، حيث يمكن أن تأتي المكاسب القصيرة الأجل على حساب الاستقرار الطويل الأمد.
إقرأ أيضاً: قانون أميركي “لمحاسبة الحزب”: الضغط الأقصى..
إنّ أجندة “أميركا أوّلاً” ليست تعبيراً عن الفخر الوطني وحسب، بل هي إعادة تفكير جذرية في كيفية استخدام القوّة الأميركية على المسرح العالمي. ومع كلّ إجراء عقابي وكلّ تحالف تتمّ إعادة تقويمه، تؤكّد الولايات المتّحدة أنّ مشاركتها الدولية يجب أن تُبرَّر بمنافع ملموسة محلّياً يمكن عندها القول إنّ شعار “جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى” بدأ يتحقّق.
لمتابعة الكاتب على X: